Monday 3 May 2010

كابوس الكفــــر

كابوس الكفــــر

النزوع إلى الشر، الظلم، الحزن، التشاؤم، الاضطراب، العزلة، الخوف، الضغط النفسي، الإحباط، انعدام الأمن والطمأنينة ، تشتت الذهن، القلق، الغضب، الغيرة، الامتعاض، إدمان المخدرات، تضعضع الأخلاق، المقامرة، البغاء، الجوع، الفقر، التفسخ الاجتماعي، السرقة، الحرب، الصراع، العنف، الاضطهاد، الخوف من الموت...هذه الظواهر وغيرها يتكرر الحديث عنها في الصحف والمجلات ومحطات التلفزة بشكل يومي. وتخصص الصحف الكبيرة صفحات كاملة لهذه الموضوعات، كما تنشر صحف أخرى سلسلة من المقالات التي تتناول الجوانب النفسية والاجتماعية لهذه القضايا. غير أن احتكاكنا بهذه القضايا لا يقتصر على الصحف وحدها، بل نحن نواجه هذه المشكلات بشكل متكرر في سياق حياتنا اليومية، وأهم من ذلك، لكل واحد منا تجارب شخصية معها.

يكافح الناس والمجتمعات للتحرر من وطأة هذه الاضطرابات والظواهر السلبية، ومن مثل هذه الهياكل الاجتماعية الضارة والعليلة التي هيمنت على العالم منذ عصور. ويكفينا للتيقن من ذلك أن نلقي نظرة خاطفة على دولة اليونان القديمة وعلى الإمبراطورية الرومانية العظمى وروسيا القيصرية

وعلى ما يسمى بعصر التنوير، بل حتى القرن العشرين قرن البؤس الذي شهد حربين عالميتين اثنتين وكوارث اجتماعية واسعة النطاق. وأيا كانت الحقبة الزمنية أو الحيّز الجغرافي الذي تصوّب إليه نظرك، فإن الصورة تظل هي هي، بلا اختلاف ذي بال.

ويثور سؤال هنا وهو: لماذا عجز الناس، والحال كذلك، عن الإتيان بحلول لهذه المشكلات، أو على الأقل، بذل الجهود لتخليص مجتمعاتهم من هذه العلل الاجتماعية؟

الواقع أنه لم يسلم مجتمع في أي عصر من العصور من هذه المشكلات، ومع هذا استمرت خيبة الناس في التخلص منها وما ذاك لا لعدم صلاحية الوسائل المستخدمة لبلوغ هذه الغاية. فقد تداووا بكل الأدوية وجربوا نظماً سياسية شتى، وبسطوا قوانين شمولية فاشلة، وأقاموا الثورات، وتبنوا أيدلوجيات منحرفة، هذا في حين اتسم سلوك البعض الآخر باللامبالاة تجاه هذه المشكلات وآثروا التسليم بالوضع القائم.

وفي عصرنا هذا الراهن أشرب الناس، أو كادوا، هذا النمط الحياتي، أعني اللامبالاة. فهم مسلمون بأن هذه المشكلات هي من حقائق الحياة التي لا يملك أحد تغييرها. لذلك فهم موقنون بأن وجود مجتمع يتمتع بالحصانة من هذه المشكلات إنما هو ضرب من المحال أو حلم طوباوي بعيد المنال. ورغم امتعاضهم المتكرر والمعلن من هذا النمط الحياتي إلا أنهم يركنون إليه ويعتنقونه بكل سهولة وذلك بسبب ما قرّ في نفوسهم من استحالة وجود بديل آخر لهذا النمط الحياتي.

إن الترياق الوحيد لهذه المشكلات كلها يكمن في اعتناق مبادئ "الدين الحق". فلا أمل في تغيير هذه الصورة الكالحة التي ستبقى ما بقي التجاهل لحدود الله وإبدالها بصورة أخرى هادئة ومشرقة إلا إذا سادت قيم الدين الحق. وبعبارة أخرى، سيظل الناس نهبا لهذه المعضلات طالما تناءوا عن قيم القرآن. ولو شئنا أن نعرف هذا الوضع بعبارة بسيطة لقلنا إنه: كابوس الكفر.

لقد دفعت أرحام المطابع بكتب كثيرة حاول مؤلفوها التعامل مع المشكلات النفسية والاجتماعية التي تواجهها المجتمعات اليوم، إلا أن الخاصية التي تميّز هذا الكتاب هي أنه يركّز على الحل الأكثر واقعية، كما أنه ينذر الناس من مغبة المستقبل الكئيب الذي ينتظرهم إذا عشوا عن هذا الحل.

وإننا لنرجو أن يدرك الذين يقبلون على هذا الكتاب بعقل متفتح وضمير واع أن معاني السلام والثقة المتبادلة وتوفر حياة اجتماعية مثالية لا تتأتى إلا بتقمّص قيم القرآن والإقبال على الدين الحق، وهو الدين الإسلامي.

عندها سيندرج هؤلاء في سلك الناجين من رهق المعاناة، معنوية كانت أو حسية، ومن نصب المتاعب التي سلف الحديث عنها، وسيحيون في بحبوحة من الرحمة والحب والاحترام والسلام والثقة، وستسود بينهم القيم الأخلاقية. وسيتوسلون إلى مرضاة الله بمراعاة حدوده والتزام هدي القرآن. وبهذا يقوى إيمانهم بالله فيفرغ الله عليهم شئآبيب رحمته ويثيبهم جنات الفردوس بعد الممات.

مـا الــدين الحـــق؟

من أين أتيت وإلى أين أذهب؟ ما هدف ومعنى حياتي؟ ما حقيقة الموت؟ هل هناك حياة أخرى بعد الموت؟ هل الجنة والنار توجدان حق؟ ما هو أصل الحياة؟ أين الله؟ ماذا يريد منا خالقنا؟ كيف لي أن أفرّق بين الحق والباطل؟ أين أعثر على إجابات لهذه الأسئلة؟

لقد حاول الناس في كل العصور الإجابة على هذه الأسئلة المهمة وفكروا فيها بجد وأوسعوها نقاشا، ومع ذلك، وخلافا للاعتقاد الشائع، فقد خرجت أفضل الإجابات على هذه الأسئلة وعلى مر العصور من مشكاة "الدين الحق" الذي تنزل به الوحي الإلهي لا من قرائح الفلاسفة وعقول المفكرين.

كثيرة هي الأديان التي أوت إليها أفئدة الناس وجذبت الأتباع على امتداد العالم، ومن هذه الأديان على وجه التمثيل لا الحصر: البوذية والشامانية والوثنية، إلا أنه لا أحد من هذه الأديان تنزل به الوحي الإلهي. ولهذا فهي لا تزيد على كونها فلسفات أو حركات. وبعض هذه الأديان، وبحكم اقتصارها على معان رمزية أو ثقافية، لم تأت بأي حلول اجتماعية أو نفسية للمشكلات. كما أن الأشخاص الذين اضطلعوا بمهمة تطوير هذه الأديان قد أهمتهم هذه الأسئلة الملحة، إلا أنهم عجزوا عن الإتيان بإجابات يعوّل عليها. ومع هذا فهناك بعض الأديان الصحيحة والتي يتعيّن علينا تقييمها وفرزها من الأديان الباطلة. وإن أبرز سمة تميّز الأديان الصحيحة من الأديان الزائفة هي الأصل الذي خرجت منه، إذ تتصل جذورها جميعا بالوحي. لقد أخبر الله سبحانه وتعالى الناس في القرآن عن هيمنة وعلو الدين الحق على ما عداه من أديان أو فلسفات أو نظم اجتماعية، وذلك في قوله: "هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا" (الفتح: 28)، وفي قوله تعالى: "هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِه َالْمُشْرِكُونَ" (الصف: 9)

إن اليهودية والنصرانية والإسلام هي الديانات التي ترجع أصولها إلى الوحي. فهي في أصولها تنزلات وحيية من الله تبارك وتعالى، إلا أن فسادا عريضا قد اعترى الديانتين النصرانية واليهودية بعد موت عيسى وموسى عليهما السلام. فقد غشيت غاشية التحريف والحذف والإضافة كتابي العهد الجديد (الإنجيل) والعهد القديم (التوراة)، وباختفاء الكتب الأصلية بمرور الوقت ظهرت نسخ محرفة كثيرة للعهدين الجديد والقديم، ولف النسيان المطبق النسختين الأصليتين من الكتابين. ولهذا تفرقت السبل بأتباع الديانتين عن سبيل الدين الإلهي الأصيل، فأقاموا معتقداتهم وطقوسهم وطرائقهم التعبدية والحياتية على فهم محرف لدين اختلقه الأحبار والرهبان. ولا تزال هذه التفسيرات والمعتقدات الزائغة باقية إلى يوم الناس هذا. ولهذا عجزت هذه الأديان المحرفة عن تقديم حلول للمشكلات سالفة الذكر.

بعد هذا التحريف الذي طرأ على هاتين الديانتين أوحى الله آخر الكتب السماوية والذي أريد له أن يبقى بريئا من التحريف إلى يوم القيامة وذلك بعد أن تعهد الله بحمايته وحفظه من عبث العابثين وتحريف المبطلين، يقول الله تعالى: " إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" (الحجر: 9).

لقد بقي القرآن ولأربعة عشر قرنا من الزمان بهيئته الأولى ونسخته الأصلية بريئا من غوائل التحريف والدس. فقد بقي كل حرف من النسخة الأولى للقرآن والتي كتبت بخط اليد كما هو في المصاحف التي في أيدي المسلمين اليوم. ففي كل مصر من أمصار العالم يتلو المسلمون كتابا واحدا مما يبرهن على أن القرآن مكلوء برعاية إلهية خاصة.

لقد أوصل الله رسالاته للبشر بواسطة الرسل أو من طريق الكتب وذلك على امتداد التاريخ. فقد فرض الله على آدم، أول إنسان خلقه الله في الأرض، ذات المبدأ الذي أنزله على الرسل الذين تتالت بعثاتهم بعده. وبعبارة أخرى، فقد كان الإنسان الأول على علم تام بوجود الله. ثم حمي تنزل الكتب وبعث الرسل بعد ذلك وتتابع عبر حقب الزمان. وهذه الحقيقة أشار إليها القرآن في قوله تعالى: "كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُم ُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" (البقرة: 213)

وكما أشارت الآية آنفة الذكر، فقد أوصل الله رسالاته لبني الإنسان عبر رسله وكتبه. وقد دأب الرسل على تحذير أقوامهم وتذكيرهم بيوم القيامة وخوّفوهم من جهنم التي سيخلّد الله فيها من يكفر برسالاته من البشر، كما بشر هؤلاء الرسل من يستجيب لدعوة الله من أقوامهم بالخلود الأبدي في جنات الفردوس. إن الله الذي تكفل بخلق الإنسان هو الذي يعلم أي نوع من الحياة يصلح له ويجلب له الراحة والطمأنينة في الحياة الدنيا. وهذا هو السبب في كون القيم الأخلاقية ونمط الحياة الذي يرتضيه الله للناس هو الذي يضمن لهم حياة طيبة في الدنيا وفي الآخرة. صفوة القول، فبما رحمة من الله كان الدين هو النظام الذي يمكن الإنسان من أن يعيش حياة تجري على نسق مثالي على الصعيدين النفسي والاجتماعي.

رغم أن الوصايا والرسالات التي أنزلها الله إلى خلقه كانت متنوعة بحسب تنوع بيئات الناس وأحوالهم وأزمنتهم، إلا أن الأديان السماوية تلتقي في أصول المعتقدات والمثل الأخلاقية التي يراد للناس التشبث بها. فقد جاءت كل الرسالات السماوية بحقائق جوهرية حول وجود الله، وأوضحت أسماء الله وصفاته، وبينت الغرض من خلق الإنسان وغيره من المخلوقات، ورسمت المنهج الذي يحقق للناس العبودية الحقة لله، وجلت كل ما يرتضيه الله من أنماط السلوك والعمل، وكشفت عن المبدأ الذي يعين الناس على التفريق بين الحق والباطل، وبين السيئ والحسن، وكيف يجعل الإنسان من حياته مطية تبلغه رضا الله وتدخله جنات الفردوس.

عليه فإن الدين الحق عند الله هو الإسلام. فهو أصل ومادة كافة الأديان التي عبد الناس الله بها منذ عهد أول رسول في الأرض، آدم عليه السلام. والإسلام يعني الاستسلام لإرادة الله الغالب. وهذه الحقيقة يؤكدها القرآن على النحو التالي: "إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ" (آل عمران: 19).

ورغم أن الأديان الصحيحة نسبت إلى الرسل التي جاءوا بها فقيل اليهودية والنصرانية، إلا أن الأديان التي جاء بها هؤلاء الرسل كانت كلها دينا حقا واحدا. وبعبارة أخرى، فقد كانت كلها إسلاما في عهودها: "وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِير" (الحج: 78).

إن الناس الذين أنزلت عليهم كتب سماوية (اليهود والنصارى) سبقت نزول القرآن، كانوا في الحقيقة مسلمين، وهذه الحقيقة يعبر عنها القرآن على لسان أصحاب المعتقد السليم من اليهود والنصارى: "الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُون وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ " (القصص: 52-53 ).وقد دحض الله مزاعم اليهود والنصارى في هذا الصدد مصححا خطأ ما ذهبوا إليه بقوله: "مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" (آل عمران: 67).

وإذا أجلنا النظر في القرآن نجد أن كل الرسل بمختلف عصورهم جاءوا بمنظومة واحدة من المعتقدات والعبادات. فقد وردت الإشارة في القرآن إلى رسول الله زكريا ونداء الملائكة له وهو قائم يصلي: "فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ " (آل عمران: 39).ورسول الله شعيب حين خاطبه قومه قائلين: "قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ " (هود: 87).ورسول الله إدريس: "وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا" (مري: 55م)، وعن رسل الله اسحق ويعقوب: "وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِين" (الأنبياء: 73)ورسولا الله داوود وسليمان: "وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ" (يونس: 78)،ورسول الله عيسى أنه قال: " وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا" (مريم:1 3)ولقمان حين خاطب ابنه ناصحا: "يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ" (لقمان: 17)وقوله تعالى: "وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ" (لقمان: 13)، ومريم حين أوصاها الله قائلا: "يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ" (آل عمران : 43).

وليست هذه سوى بعض الأمثلة لبعض طرق العبادة ومبادئ العقيدة ويمكن تعميمها على كافة رسل الله طالما أن الدين الحق نفسه هو الذي أنزل على كافة الرسل. وفي الآية التالية تتجلى الملامح الجوهرية الثابتة لهذا الدين الحق : "وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّه َمُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاة َوَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ"(البيّنة: 5)

عليه فإن الدين عند الله هو الإسلام. هذه الحقيقة الثابتة يعبر عنها القرآن في قوله تعالى:"وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين"َ(آل عمران: 85)

لماذا أنزلت الأديــــان؟

لقد أودع الله في أصل فطرة الإنسان ومنذ لحظة خلقه ميلا إلى إدراك وجود الله وذلك باستخدام ما عنده من ملكات الوعي والحكمة. إن من الحقائق الجلية أن كل شيء في الكون من أكبر ما فيه من موجودات إلى أصغرها، هو من خلق وتدبير الله. ففي كل شيء يحيط بنا آية وبرهان على وجود الله. فقد خلق الله الطير الذي يحلق في جو السماء والأسماك التي تسبح في قيعان البحار والإبل التي تجوب الصحراء وطيور البنغوين التي تعمر الدائرة القطبية الجنوبية للكرة الأرضية والبكتريا التي تتخذ من أجسادنا سكنا والتي لا ترى بالعين المجردة والثمار والنباتات والغيوم والكواكب والمجرات العظيمة في أكمل هيئة وأحسن تقويم وزودها جميعا بأنظمة وأجهزة حساسة ومزايا راقية.

وبالمثل، كل النظم التي تعين على استمرار الحياة في الأرض مرسومة وفق توازن دقيق. فحدوث أدنى اختلال أو انحراف في هذه التوازنات، ولو قيس بالمليمتر، من شأنه أن يجعل الحياة على وجه الأرض مستحيلة. وإن التأمل في هذه التوازنات ليكشف عما تنطوي عليه من حساب دقيق رائع وخطة بديعة. فلو تراجعت سرعة دوران الأرض حول الشمس عن معدلها الحالي لأسفر ذلك عن فروق هائلة في درجات الحرارة بين الليل والنهار، كما ستؤدي الزيادة في سرعة دوران الأرض حول الشمس إلى حدوث أعاصير وفيضانات مما يشكل تهديدا خطيرا للوجود على كوكب الأرض.

كما توجد توازنات أخرى دقيقة تجعل الحياة ممكنة على ظهر كوكبنا الأرضي. لهذا يستحيل عقلا القول بأن هذه التوازنات الدقيقة الرائعة هي وليدة المصادفة العمياء. فكاميرا التصوير أو السيارة تدل الإنسان على وجود صانع حاذق واع، وبالمثل يتعين على المرء أن يستنتج أن الكون وما فيه من شبكة نظم مترابطة ليس كياناً مستقلا بذاته خالقا لها. وتتكرر في القرآن الآيات التي يلفت الله فيها أنظارنا إلى أدلة وجوده وآيات حكمته المبثوثة في الكون: "هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُون" (النحل: 10-13) وفي قوله تعالى: "أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُون " (النحل: 17).

حري بمن يتأمل الآيات سالفة الذكر أن يقر، ولو كان مجرداً تماماً من المعارف الدينية، بوجود الله وأن ينبهر من قدرة الله وحوله. إن نظر الإنسان في جسده، ذلك الكيان الذي يموج بمنظومات معقدة ومترابطة، كفيل بجعل الإنسان يقر بجلال خلق الله. وكذلك بمقدور الشخص الذي لم يطلع على كتاب الله الموحى أن يهتدي إلى خالقه بملاحظة وتأمل ما يحيط به من مخلوقات. فالكون يزخر بالأدلة على وجود الله لكن لا يقف على هذه الأدلة إلا الذين أوتوا قرائح متقدة: "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَاب الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" (آل عمران: 190-191).

وهنا، أي بعد الإقرار بوجود الله، تتجلى الحاجة إلى الدين أكثر. وذلك ببساطة لأن الشخص الذي يقر بوجود الله سيرغب حتما في التقرب إليه، ومعرفة المزيد عنه والبحث عن سبل لاكتساب حبه ورحمته، والسبيل الوحيدة إلى هذه الغايات تكمن في فهم قيم القرآن كلام الله الخالد ودستور الإسلام السماوي، دين الحق.

لقد دعا الله الناس في كل العصور للإيمان به وأعد جهنم لكل من رفض الاستجابة لهذه الدعوة.

القرآن يزود الإنسان بكل المعارف الضرورية له

لم يخل عصر من العصور من كتب منزلة ورسل مرسلون إلى بني الإنسان، كل ذلك لأجل أن يعرّف الله نفسه للإنسان وليعلمه أنماط السلوك والقيم الأخلاقية وأسلوب الحياة الذي يريد له العيش وفقه وهيئه له. لقد أرشدت تلك الكتب وتلك الرسل الإنسان إلى المعاني الحقيقية لمفاهيم الخير والشر والخطأ والصواب، ولفتت نظره إلى ما سيقفو الموت من حياة أخروية يثاب فيها المحسن ويعاقب فيها المسيء.

وبهذه الكيفية بيّن الله كل ما يحتاج الإنسان إلى معرفته على امتداد حياته عن طريق الأديان السماوية، فلم تغادر هذه الأديان كبيرة ولا صغيرة فيما يتصل بكيفية تحقيق حياة قيمة وطيبة في هذه الدنيا وفي الآخرة إلا جاءت بها. وقد وردت الإشارة إلى الغاية الأولى من خلق الإنسان وإرسال الرسل وإنزال الديانات في آيات كثيرة من آي الذكر الحكيم : "وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَـؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين "(النحل: 89)،"وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا"(الإسراء: 105)، "ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ"(الأنعام: 154).

القرآن يبين الغاية الحقيقة من خلق الإنسان

شهد التاريخ على امتداد حقبه خلق وحياة وفناء مليارات من البشر. قلة قليلة من هؤلاء البشر جهدت وسعت لمعرفة الغاية الحقيقية للحياة، أما البقية الباقية فانجرفت مع تيار الأحداث اليومي وقضوا حياتهم جرياً وراء غايات صغيرة تافهة. ولهذا كانت غاية وجودهم وشغلهم الشاغل هو أن يحققوا رغباتهم الخاصة. إن موقفا باطنيا غير مسئول يميّز هذا الضرب الطاغي من السلوك في كل المجتمعات في مختلف عهود التاريخ تقريبا. فكل جيل، باستثناء حالات قليلة، وقع في ذات الأخطاء التي وقع فيها الجيل السابق وتبنى بكل بساطة أهداف وقيم آبائهم الأولين. وهي دائرة مفرغة لا تزال تدور إلى يوم الناس هذا.

لقد استعبدت أكثر الناس فلسفات ومبادئ راتبة يقوم أكثرها على المبدأ التالي: إن الإنسان يظهر في الوجود ويشب ثم يكبر ثم يموت. إن الإنسان لا يولد إلا مرة واحدة، وإن الموت هو نهاية كل شيء. ولهذا يتعين على الناس أن يحيوا حياتهم طولا وعرضا وأن يسعوا لتحقيق رغباتهم وإشباع نزواتهم وشهواتهم ما دامت في حياتهم بقية.

وهكذا طفق الناس ينفقون حياتهم التي ظنوا حمقاً أنها الحياة الوحيدة متشبثين بأنماط الحياة والسلوك التي ورثوها من أسلافهم الغابرين. وشرعوا، مدفوعين بروح مجردة من الوعي بالموت، في جعل اتباع الشهوات والتخطيط للمستقبل غايات سامية لحياتهم. ويصدق هذا الوصف على كل الناس على اختلاف مشاربهم وشياتهم الثقافية والاجتماعية. فقد أصبح الحصول على تعليم راق وشغل منصب مرموق وتحقيق مستوى عال من العيش وبناء أسرة سعيدة وغير ذلك مما لا يحصى من الأهداف المماثلة، غايات ثابتة للحياة.

كل شيء حي سيفارق الحياة في وقت محدد وسيقف بمفرده أمام الله

ليحاسبه على ما قدم في حياته وهذه حقيقة يؤكدها القرآن.

يمكن للمرء أن يفيض في ذكر هذه الأهداف فيسوّد بها صحائف كثيرة، لكن الحقيقة هي أن هؤلاء الناس قد عشوا عن الغاية الوحيدة لوجودهم، وأنفقوا حياتهم كلها والتي هي فرصة فريدة أعطوها لتحقيق غاية وجودهم الكبرى، في الباطل والسفه. وهذا الهدف النهائي هو أن يغدوا عبيدا لله الخالق. وهذا الأمر مبسوط في القرآن في قوله تعالى : "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ"(الذاريات: 56).

إن السبيل إلى تحقيق العبودية الحقة مبين كذلك في القرآن. والعبودية لله تعني القبول بوجود ووحدانية الله، ومعرفة صفاته العليا وأسمائه الحسنى والإقرار بجلاله وعظمته والالتفات عن عبادة كل معبود سواه وصرف العمر سعياً لنيل رضاه. وقد اشتمل القرآن على وصف مفصل ودقيق لنمط الحياة والقيم الخلقية التي يرضها الله للناس. والشخص الذي يعيش في كنف هذه القيم وفي إطار هذه الحدود مبشر بحياة طيبة يحوزها في الدنيا وفي الآخرة. ولمن تنكب سبيل الله مآل سيئ ينتظره.

إن لنمط حياة المرء في هذه الدنيا دور في تشكيل مستقبله الأخروي وحياته السرمدية بعد الموت. والموت حد فاصل تنتهي عنده فترة الاختبار ولا يسمح للإنسان بعده بإصلاح ما أفسده إبان إقامته في الحياة الدنيا، ولهذا فإن تصرف الإنسان كما لو أنه جاء إلى الوجود بمحض المصادفة أو أنه حر طليق من أي قيد أو أنه قد جاء إلى هذه الحياة ليقضي أيامه في إشباع رغبات مستحقرة، سبيل ستفضي به إلى درك الخسران. إن الذين يستهترون بخالقهم ولا يبالون بأمره ولا يقيمون وزنا للغاية من خلقهم ولا يأبهون لما سيئول إليه أمرهم في الحياة الآخرة، سيقال لهم يوم القيامة على وجه التوبيخ: "أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ" (المؤمنون: 115).

هؤلاء الناس هم في واقع الأمر غير مدركين للغاية من وجودهم. وقد أوضح الله هذه الغاية من خلال كتبه ورسله وأرشد الناس إلى الطريق القويم، وفوق ذلك، أعطى الله الإنسان فسحة من العمر ليتعظ. ولن ينفع الذين عموا وصموا عن هذه الفرص وآثروا الشهوات واتبعوها كلها وتنكبوا الطريق الصحيح التي ارتضاها لهم بارئهم، لن ينفعهم الاعتذار يوم القيامة ولن يستعتبون: "وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ" (فاطر: 37).

القــرآن يرشــد إلى سبــل تحــقيق العبـــودية للـــه

لأن الإنسان خلق ليكون عبدا لله فهو مطالب بمعرفة كيفية هذه العبادة. جاءت الإشارة إلى هذا في القرآن: "لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ" (الحج: 67).

ففي القرآن وصف مفصل لنوع العبادة التي يريدها الله من عباده. وإن المرء لواجد في القرآن كل الإجابات على الأسئلة المتعلقة بإقامة الصلاة والعبادة الراتبة والزكاة الواجبة إلى جانب الصفات التي يمتدحها الله في عباده المؤمنين وأنماط السلوك التي يتعين على العبد اجتنابها والقيم الخلقية التي ينبغي للعبد اكتسابها، كل هذا مبسوط ومصرح في القرآن. إن التواضع والاستعداد للتضحية والبذل في سبيل الله والأمانة والعدل والتسامح والثبات على المبدأ ونحو ذلك من السمات الخلقية، مشار إليها ومحمودة في القرآن. كما تحدث القرآن باستفاضة عن الأعمال الشريرة وسيئات السلوك والتعامل الفج مع الناس وحذر المؤمنين من الاقتراب منها.

لقد خلق الله الكون والإنسان من لا شيء. وخص الإنسان من بين سائر المخلوقات بفضائل جمّة حباه إياها منها الروح وهي أبرز وأعظم ما يميّز الإنسان، وهي التي تجعل الإنسان كائنا واعيا مدركا. وأفضال الله ونعمه على الإنسان كثيرة يأتي دونها الحصر (18-النحل) لهذا يتعين على الإنسان التأمل في سبب استحقاقه لهذه النعم والمكرمات وما هو المطلوب منه مقابل ذلك.

لقد أودع الله في الإنسان القدرة على إدراك حقيقة أن كل النعم التي يستمتع بها قد جاءته من قبل الله، وبالتالي يسهل عليه إدراك ما يتعين عليه من واجب الشكر لهذه النعم. لكنه قد تنبهم أمامه طرق التعبير عن هذا الشكر والامتنان، وهنا يأتي القرآن ليهديه السبيل. فقد أمر الله عباده في القرآن أن يستشعروا الحاجة إلى نيل رضاه على امتداد حياتهم. ولتحقيق هذه الغاية يتعين على الإنسان وفي كل لحظة من وجوده أن يؤثر رضا ربه على إشباع رغباته وأهوائه، لأن المرء يغدو بدون ذلك عبدا للشهوات تستهويه فينقاد لها: "أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا" (الفرقان: 43)

وعليه يكون نهج المسلم في كل أطوار حياته قائما على النظر في كل الخيارات والبدائل التي تعرض له، سواء تعلقت هذه البدائل بحادثة أو بفكرة أو بموقف، ثم يختار أقربها إلى رضا الله. وبالتالي يحق للمؤمن الذي قضى حياته في طلب رضا خالقه، أن يتطلع إلى إكرام الله له بالجزاء الأوفى والإنعام الأبدي. وعليه فإن نفع عبادة المؤمن يعود إليه هو لا إلى الله، لأن الله غير محتاج لصلاة العبد أو عبادته أو أعماله الصالحة، وقد عبر القرآن عن هذه الحقيقة في قوله تعالى: "وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ" (العنكبوت: 6).

القرآن يعلم الإنسان التفريق بين الحق والباطل

في البيئات التي لا تقيم وزنا لمبادئ القرآن يجري تطبيق معايير متنوعة لا يعوّل عليها للتفريق بين الخير والشر. ويتمخض عن الاعتماد على مثل هذه المعايير المتنوعة سلوك خاطئ ونتائج مؤذية. فالشخص الذي حاول اقتراف جريمة مرة واحدة مثلا يعتبر أكثر براءة من الآخرين الذين ارتكبوا عدداً من الجرائم. فاللص الذي يسطو على البيوت يعد نفسه أقل ضرراً من مرتكب جريمة القتل، في حين يظن مرتكب جريمة القتل بنفسه خيراً لأنه لم يرتكب في حياته سوى جريمة قتل واحدة. فحسب رأيه، فإن من يتكسبون بسفك دماء الآخرين هم الأشرار. ومن الناحية الأخرى يرسم قاتل محترف خطاً فاصلاً بينه وبين شخص مختل العقل، و يعد نفسه بريئا تماماً. وينطبق هذا الوصف على من تجردوا من الوازع الخلقي وإن لم يكونوا في عداد المجرمين. فمن يغتاب الناس لا يرى بفعلته بأساً لأنه إنما فعلها بحسن نيّة، ومن يحمل حقداً على آخر يستصغر ذنبه لأنه لا يحقد إلا بوجه حق. ويمكن للمرء أن يسترسل في سرد حجج مماثلة كثيرة. صفوة القول أن جميع هؤلاء الناس يظنون أنهم أبرياء ولا يقرون ببشاعة جرائمهم، إلا أن الحجج والذرائع التي يسوقونها باطلة وموغلة في الخطأ، وذلك لأن الشخص البريء هو من يستمسك بكتاب الله، في حين يكون الشخص آثما إذا تعارضت تصرفاته مع دستور الأخلاق الذي جاء به القرآن، مهما انتحل من مزاعم.

وكما نعلم جميعا فإن للنفس البشرية وجهان: الضمير والنفس الأمارة بالسوء. يلهم الضمير المرء ويحفزه دائما إلى فعل الخير والصواب في حين تدفعه النفس الأمارة بالسوء إلى سيئ السلوك وكل ما يغضب الله. وانتفاع المرء بضميره، من الناحية الأخرى، لا يتسنى إلا إذا قوي إيمانه بالله وتحلى بالخوف منه.

يهب الدين الإنسان وعيا يميز به بين الخير والشر. ولن تكون للمرء آلية لاتخاذ القرارات ولا ملكة تفكير سليمة إلا إذا صدّق بما أنزل الله من هدى وسيّر حياته وفق مقررات هذا الهدى. فالشخص الذي يخاف الله مثلا يجعل له ربه فرقانا يفرق به بين الحق والباطل: "يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ" (الأنفال: 29)فالقرآن فيصل فريد بين الحق والباطل وبين الخطأ والصواب: "تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا " (الفرقان: 1). ويشتمل القرآن على تفصيل دقيق لمفهوم الحق والباطل ويرشد الناس إلى أفضل السبل لاستخدام ضمائرهم ووعيهم. وفي الآية التالية نرى تفصيلا شاملا لمفهوم الحق والباطل: "لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ" (البقرة: 177).

إن كل معتقد يرثه المرء من أسرته أو من أسلافه أو يكتسبه من بيئته الاجتماعية لا يستحق أن يعول عليه طالما تعارض مع مبادئ القرآن. وشاهدنا على ذلك تلك العبارات المعينة التي يشيع استخدامها لوصف شخص ما بأنه خيّر، ومنها قولهم "إن فلان لا يؤذي ذبابة". إلا أن كف الإنسان عن إلحاق الأذى حتى بالذباب مع تنكبه سبيل الهدى التي رسمها القرآن لا تجعله رجل خير. فالمهم أن يحجز الإنسان نفسه عن الأعمال الشريرة التي أشار إليها القرآن وأن يأتي أفعال الخير التي امتدحها القرآن. يعتقد البعض أن تحلي الشخص بصفة الرأفة بالمساكين والشفقة بالأطفال وتقديم العون لهم لا يسبغ عليهم صفة التدين. فالقرآن يبين لنا أن هذه الأعمال لا تجعل صاحبها أهلا لصفة الإيمان الحق، إنما المؤمن الحق هو الشخص الذي يجهد في اقتفاء أثر القرآن ويقف نفسه لنيل مرضاة الله.

القرآن يرشد الإنسان إلى طبيعة العالم الحقيقية

يخبرنا الله في القرآن—أحدث الكتب عهدا بالسماء وهادي البشرية إلى الصراط المستقيم—أننا خلقنا لنعبد الله وحده. كما يلفت أنظارنا إلى حقيقة أن هذا العالم دار اختبار وابتلاء للمؤمنين، يمتحنهم ربهم ليميز الخبيث من الطيب. وبناء عليه، وكشرط من شروط هذا الاختبار، يحذر الله الإنسان من مغبة الاستجابة للعوامل التي خلقت لتغريه وتبعده عن الصراط المستقيم، مشيرا إلى الطبيعة الخداعة المغوية لهذه العوامل: ".وثمة آيات كثيرة في القرآن تصف حقيقة الحياة في هذا العالم نورد فيما يلي بعضا منها: " إِنَّمَاأَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيم"(التغابن: 15)، "زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ"(آل عمران: 14)، "وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُون" (القصص: 60)

إن المكانة الاجتماعية والمال والأولاد ورغد العيش والفقر وضنك العيش كل أولئك أشياء يبتلى بها الإنسان في الدنيا، يقول الله تعالى: "وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ" (الأنعام: 165).أما الدليل على أن خلق الحياة والموت ليس سوى اختبار وابتلاء للإنسان ففي قوله تعالى: " الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُالْغَفُور "(الملك: 2). وكل النعيم الذي يحوزه الإنسان أو يُسلبه في الدنيا إنما هو اختبار له: "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ" (الأنبياء: 35)،"وَأَمَّا إِذَا مَاابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَن كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ"(الفجر: 15-16)، هذه الآية تتضمن وصفا جليا لموقف شخص ليس له من الوعي ما يجعله يستوعب طبيعة هذا الابتلاء. وقد حذر الله المؤمنين من هذا الصنيع وذكرهم مرارا بالغرض الحقيقي من خلقهم: "وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى" (طه: 131).

ومع ذلك فإن أمثال هؤلاء الناس الذين عجزوا عن إدراك هذه الحقائق، ينخدعون بالمظهر الخداع لهذه النعم، إذ يدفعهم ولعهم بالحياة واغترارهم بها إلى بذل الغالي والرخيص في سبيل تحصيل هذه المكاسب الدنيوية، وينتابهم شعور بالخيبة ويتملكهم الإحباط إذا واجهوا أزمة أو مصاعب. وفي القرآن إشارة إلى هذه الحالة العقلية: "وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُور إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَـئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ" (هود: 9-10)

أما المؤمنون الذين يفهمون كل الحوادث التي تعترض سبيلهم في ضوء هدى القرآن كائنا ما كانت الظروف، فلا يذهلون عن ذكر الله واليوم الآخر ويدأبون في السعي للفوز بدار الخلود. فهم يعون قول الرسول صلى الله عليه وسلم "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل" (البخاري) فيدركون أن إقامتهم في الدنيا محدودة وأن أيامهم فيها معدودة وأن الدار الآخرة هي الحياة الحقيقية.وهذا هو سر نجاة المؤمنين من غوائل الضلال والتيه والعجب حين تهبط عليهم النعم تترى ومن مشاعر الحزن والغم والهم إذا ابتلوا بشيء من الخوف والحرمان ونقص من الثمرات. ولأنهم علموا أن الله مبتليهم بالنعم وبالحرمان فلا يبدر منهم إلا ما يرضي الرب. استجابتهم للأحداث يحكيها قوله تعالى: "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ" (الأنبياء: 35)

بهذا يدرك المرء أن القرآن تتجلى فيه رحمة الله الواسعة المحيطة وذلك لأن المؤمنين يتعلمون أصدق الحقائق عن طريق القرآن.

القرآن يعلمنا أن الدار الآخرة لهي الحيوان(أي الحياة الحقيقة)

لا يستطيع الإنسان أن يحيط بأي شئ من مسائل الغيب. والمستقبل منأمور الغيب المستورة عن إدراك الإنسان. فلا يستطيع أحد أن يقطع بما سيقع في الثواني القليلة القادمة. وبسبب قصور التصور هذا ينظر الناس في كل العصور بفضول وحيرة إلى كل شئ مرهون بذمة المستقبل وبخاصة طبيعة الحياة التي تعقب الموت.

لا جرم أن الله، خالق الكون والإنسان والموت والساعة والجنة والنار والماضي والمستقبل، هو وحده القادر على إعطاء أدق وأصدق الإجابات عن هذه الأسئلة. فهو الذي خلق الكون وما حوى من كائنات حية من عدم ولا يزال يخلقها لحظة بعد أخرى. كما خلق اللهالزمان، أحد الأبعاد الكونية والذي يلف كل كائن حي. لكن الله لا يحده زمان فهو بلا ريب خارج حدود مفاهيم الزمان والمكان. فالله خلق كل شيء خارج إطار الزمن. فقد خَلق الله وعلم بكل شيء مما نعده نحن ماضياً أو حاضراً في لحظة واحدة.

يطلق وصف الغيب على كل شيء تعجز حواسنا عن إدراكه بما في ذلك المستقبل. واليوم الآخر هو أيضا جزء من الغيب بالنسبة للإنسان طالما ظل على قيد الحياة. والقرآن يحدث الناس عن اليوم الآخر ويتحفهم بوصف مفصل له. ولقد وضع الفلاسفة في كل العصور افتراضات شتى فيما يتعلق بالحياة بعد الموت بالإضافة إلى الثقافات المتعددة التي تزخر بالمعتقدات الأسطورية عن الدار الآخرة. إلا أن الدين الحق هو الذي يعطي أدق وصف لليوم الآخر.

إن الدين الحق هو وحده الذي ينبئ الإنسان بالطبيعة المحدودة للحياة الدنيا وبما ينتظر الإنسان من حياة سرمدية في الدار الآخرة. يخبرنا القرآن أنه سيأتي يوم يعاقب فيه المسيء ويثاب المحسن. فالقرآن هو المصدر الفريد الذي نستقي منه المعلومات عن لحظة الموت وعن يوم الحساب وعن الجنة والنار. يذكرنا القرآن، آخر وحي تنزل من رب العالمين، وفي آيات عديدة أن المقر الحقيقي الإنسان سيكون في الدار الآخرة. يقول الله تعالى: "وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُون" (الأنعام: 32)

أثر الدين على الحياة الاجتماعية

إن للكفر آثاراً وانعكاسات سلبية شتى على الناس والمجتمعات، فالظلم والأنانية وانعدام الثقة هي أبرز سمات المجتمعات اللادينية. وهذه هي طبيعة المجتمعات الكافرة، لأنه لا شيء غير الدين يحقق الاستقامة الأخلاقية للأفراد والمجتمعات. فالأشخاص الذين يؤمنون بالله وباليوم الآخر يتصرفون بمسئولية وذلك لأنهم يقضون حياتهم في طاعة الله. فالخوف من الله يحملهم على اجتناب الشرور. وما سادت هذه الروح في مجتمع إلا تلاشت منه العلل الاجتماعية أو انحسرت إلى أبعد الحدود. لكن الكافر وبسبب غفلته عما ينتظره في اليوم الآخر من عقاب أو ثواب، لا يراعي حدود الله. لأن تكذيبه بيوم الدين يدفعه إلى الظن باستحالة الكف عن الشرور. ولا يتردد كثير من الناس رغم تحاشيهم لأنماط معينة من السلوك المنبوذ اجتماعيا، في ارتكاب شرور أخرى إذا تولد فيهم دافع إلى ذلك أو حفزوا إليها أو واتتهم الفرصة لارتكابها.

إن من يسلك طريق الكفر تبدأ متاعبه ومشكلاته المادية والمعنوية في حال حياته وذلك لأن كل إنسان يستيقن في قرارة نفسه أن به حاجة ماسة للتمسك بأهداب القيم الدينية. ولا شك أنه ما من إنسان إلا وقد وهب ملكة الضمير، لكن في حين نجد هذه الآلية منضبطة لدى المؤمنين فإنها تكون مختلة لدى الأشخاص الذي لا يحيون بقيم الدين. وبعبارة أخرى، يعاني الأشخاص الذين ينأون عن قيم الدين من رهق روحي بسبب تلهيهم عن صوت الضمير. فكل إنسان في حقيقة الأمر يقر بأن له خالقاً يراقبه وأنه مطالب بأن يسمو بنفسه أخلاقياً، لكن هذه الحقائق تتعارض مع رغباته ونزواته الدنيوية، وهذا هو الدافع الذي يجعل الناس ينبذون الدين بالكلية أو ينتحلون معاذير مثل قولهم"إنني رجل أمين وطيب ومخلص" مراوغة وتملصا من العيش وفق هدى القرآن. لكن فيكلا الحالين فإن الناس يحسون بميل باطني إلى العيش وفق منهج القرآن. إن مصدر الانحراف العقلي وغيره من المشكلات النفسية والروحية في المجتمعات التي خبت فيها جذوة الدين هو هذا الضنك والعنت الروحي الذي نسميه "وخز الضمير". الآيتان التاليتان تصفان حال الأشخاص الذين حلت بهم هذه المصيبة وهم على قيد الحياة: "وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِين قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُون" (النمل: 71-72)

إن وخز الضمير ليس سوى جزء يسير من العذاب الروحي والجسدي الذي سيذوقه الكافر يوم القيامة. ولقد استحق الإنسان هذا العذاب الدنيوي لأن حياته وسلوكه وتصوراته ليست منسجمة ومتلائمة مع الغاية من خلقه. وسيظل يعاني من هذا الألم الروحي طالما أصر على هذه العقلية والسلوك اللاديني. وهذا هو السبب الذي يجعله ينقب عن سبل لكبت صوت ضميره طمعاً في إسكات سياط الألم الروحي.

إن الإنسان بحكم تكوينه العقلي والجسدي ميّال إلى قيم الدين. فالله خلق الإنسان وخلق له طريقة مثلى للعيش. ولهذا فإن تجاوز حدود الله يخلق مشكلات شخصية واجتماعية. وكما ذكرنا في الصفحات السابقة فإن هذه المضاعفات والمشكلات ليست في الحقيقة سوى نكبات وكوارث شخصية واجتماعية كان ولا يزال لها أثر سلبي على الإنسانية على امتداد التاريخ. وليس من سبيل لتجاوز هذه المعضلات إلا بالاستمساك بقيم الدين، وذلك لأن الدين يوجد حلا حقيقيا لكل معضلة من هذه المعضلات.

التمسك بالقيم الدينية يمنع وقوع الجريمة

لا يرجى من أي شخص لا يحيا وفق قيم الدين ولا يتوقع بالتالي أن يحاسب على أفعاله وأن يعاقب في نهاية المطاف، أن يراعي حدود الله أو أن يعمل لخير ومصلحة الآخرين طمعاً في مرضاة الله. فهو حسب معتقده الباطل يرى أن له فرصة واحدة للحياة في الدنيا وبالتالي يتعين عليه أن يجعلها حياة ممتعة إلى أقصى حد وأن يسعى لتحقيق رغباته وأن يفعل جميع ما يشتهي. يصور القرآن هذا المنطق فيقول: "وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّون " (الجاثية:24).

حري بأي شخص تتقمصه هذه الروح المتمردة ويعتد بهذا المذهب الضال أن تصدر عنه كافة ألوان الشرور والانحراف الخلقي، فهو لا يبالي أن يسرق أو يكذب أو ينقض عهوده أو يلجأ إلى العنف أو يزوّر أو يستغل جهود وممتلكات الآخرين متى ما لاحت له الفرصة لعمل ذلك. صفوة القول، ليس ثمة ما يحجز مثل هذا الشخص عن مقارفة الشرور.

وبمرور الوقت يستسلم هذا الشخصلأوامر نفسه الأمارة بالسوء بعد أن تكون قد استعبدته. فهو لا يتورع عن إتيان أي قدر أو ضرب من الشرور. فهو يسارع إلى القتل إن ظن أن في القتل مصلحة له. وصفحات الصحف اليومية تطفح بأخبار هذا النوع من الحوادث. إذ تمتلئ صفحاتها بأخبار أشخاص يقتلون جيرانهم ليستولوا على مجوهراتهم،وأخبار عن نساء يدفعهن الغضب إلى قتل أزواجهن وعن آباء يعذبون أطفالهم أو أبناء يقتلون آباءهم ليستولوا على أموالهم. ولا شك أن هناك الكثير من شاكلة هذه الحوادث تحدث كل يوم دون أن يكشف عنها الغطاء. وفي هذا كله برهان ساطع على حقيقة أن الناس قد غدوا عبيدا لأنفسهم الأمارة بالسوء وانتكسوا روحيا حتى صاروا أضل من البهائم. ويصف القرآن كل فرد من هؤلاء بأنه معتد وذلك في قوله تعالى: " وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيم " (المطففين: 12) .

في المجتمعات التي يستطيع فيها الناس عمل ما يشاءون متى يشاءون يمكن للشخص الذي يجلس إلى جنبك في الباص أو في مركز التسوق أو في المسرح أن يشكل تهديداً محتملا لك ولسواك. فقد يكون لصا كاسراً أو قاتلاً أو مغتصباً. وفوق ذلك فقد يكون مثل هذا الشخص الخطر جميل المحيا وحائزا على درجات علمية راقية. إن مقابلة أجرتها إحدى المجلات الشهيرة لتؤكد ذلك. سألت المجلة الضيف قائلة له: "أشرت إلى أن حوادث القتل تثير اهتمامك. فهل تفكر في ارتكاب جريمة قتل في يوم ما؟ أجاب الضيف قائلا: "فكرت في القتل مرات كثيرة لكن ليس في بالي شخص معين استهدفه. أحيانا أشعر بدافع لقتل ثمانية أو تسعة أشخاص في اليوم الواحد. إن روحي مسكونة بالرغبة في مثل هذا النوع من العنف. وهي وهذه الرغبة موجودة في أعماق كل إنسان. وعلى الرغم من أن جريمة القتل تبدو منفرة، فهناك الدم والقتيل وسيارات الإسعاف والشرطة وغير ذلك، إلا أن هذا لا يمنعني من الانجذاب إلى حوادث القتل." ثم كان السؤال التالي: "أي نوع من حوادث القتل تود أن ترتكبه؟" فأجاب الضيف: "أنا أفضل استخدام السلاح الناري. وذلك لأن أساليب القتل الأخرى كتسميم الضحية مثلا لا تحدث جو الرعب الذي يصحب حوادث القتل عادة، فهي طريقة للقتل مغرقة في التخفّي"

المدهش أن الشخص الذي وجهت إليه الأسئلة أعلاه، والذي يصفه مجتمعه بأنه شخصية مستنيرة، يحمل مثل هذه المشاعر الإرهابية ولا يستنكف أن يجاهر بها. إن هذا المثال يرسم صورة واضحة المعالم للعقلية للروح التي تسود مجتمعاً لا يقيم وزنا للقيم الدينية، كما يعكس البشاعة التي تنطوي عليها دخائل الأشخاص الذين لا يؤمنون بالله ولا يخافون عقابه. إن حكم القرآن في القتل، الذي يرتكبه الكفار بكل سهولة، هو على النحو التالي: "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ(27)لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ(المائدة-28).

إن المثل الذي تتضمنه الآية أعلاه ، والذي يقول فيه الله إن قتل نفس واحدة هو كقتل البشر قاطبة، مهم جدا. وفي آية أخرى يبين الله أن قاتل النفس مصيره الخلود الأبدي في نار جهنم: " وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا " (النساء:93). ولهذا فإن الشخص العامرة دواخله بالخوف من الله يتفادى حتى مجرد التفكير في ارتكاب جريمة القتل. هذا المبدأ تصوره حكاية القرآن عن ابني أدم عليها السلام. لقد دفعت الغيرة أحد ابني آدم إلى العزم على قتل أخيه، لكن الضحية، الذي يخاف الله ربه، أبدى سلوكا وموقفا غاية في الروعة والجلال: "مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ" (المائدة:28)وعند هذه النقطة يتجلى الفرق الجوهري بين المؤمن والكافر. فالمؤمن لا تحدث نفسه بالاقتراب من فعل ذمه الله مهما كانت الظروف. كما أن الحديث الشريف الذي جاء فيه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار" (سنن ابن ماجة)، يوضح هذا الموقف تماما. أما الكفار فلا شيء يزجرهم عن ارتكاب الشرور.

إن أخلاق الإسلام تطهر المجتمع من آفات السرقة والرشوة والكذب والقتل. والمستمسكون بأخلاق الإسلام يراقبون حدود الله ولا يصغون للوساوس الشريرة التي تنفثها في جنانهم أنفسهم الأمارة بالسوء. أما من لا يأبه لقيم الدين فهو دوما يتصرف وفق ما تمليه مصلحته. وهذه هي السبيل المفضية إلى الشر بمختلف ألوانه. فالسرقة مثلا قد تجلب للمرء نفعا ماديا إلا أن المؤمن يعرض عنها لأن الدين حرمها. والسرقة في واقع الأمر تؤذي السارق والمسروق منه. فربما سرقت كل مدخرات المرء في ليلة واحدة لكن سارقها قد يصبح نهبا لتأنيب الضمير. ولهذه الأسباب حرم الإسلام مثل هذه الشرور وفتح الطريق نحو بيئة عالمية رائعة يسودها السلام.

وهنا قد ينبري كافر ليقول: "أنا لا أؤمن بالله لكنني رغم ذلك أعف عن الغش". من الوارد جداً أن يمتنع هذا الشخص عن الغش طوال حياته بدافع من مبادئه، لكنه قد يستسلم في ظل ظروف معينة لإغراء الغش فيغش الآخرين. فقد تمر به مثلا ضائقة مالية أو ربما كان في وسط لا يرى في السرقة بأسا. وثمة دواع أخرى مختلفة قد تجر المرء إلى ممارسة الغش والتورط في مستنقع الإثم. لكن الدين يحرم بشكل قاطع الاستيلاء على ممتلكات الآخرين دون وجه حق. والشخص الذي يجعل قيم الدين هاديا له في حياته لا يحاول البتة أن يغش الآخرين. فالغش ضرب من ضروب الظلم التي ذمها القرآن ونفر منها في آيات كثيرة منها قوله تعالى: "وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُون" (البقرة:188)

القرآن يأمر بإسناد الأمور إلى أهلها

إن أكبر سبب لاستعصاء كثير من المشكلات على الحل في عالم اليوم هو أن من يتصدون لهذه المشكلات تنقصهم الموهبة والمؤهلات للنهوض بأعباء هذه المهمة. ففي المجتمعات التي تغيب عنها أخلاق الإسلام تجد أناسي كثيرا تنقصهم المهارات الأساسية التي يتطلبها أداء المهام التي يتولونها. وحتى لو توفرت فيهم هذه المهارات فإنهم قد يعوزهم الالتزام بمبدأ فعل الخير للآخرين أو خدمة الإنسانية. وفي أغلب الأحوال لا تكون المهارات والخبرات هي المعيار الذي يحكم عملية توزيع المهام على الأشخاص، بل تحدد ذلك المصلحة الذاتية المتبادلة والامتيازات. فعندما يموت أحد ملاك المصانع مثلا فإن ابنه هو الذي يتولى مسئولية إدارة المصنع، ولا يهم بعد ذلك إن كان الابن يتمتع بالمهارات والمعرفة التي تمكنه من إدارة المصنع أم لا، بل ربما كان في قرارة نفسه كارها لهذا المنصب لكنه يقبل به على مضض لأنه هذا المنصب الموروث يضمن له النجاح والأمان الوظيفي والمالي والهيبة والاعتبار. ولذلك يفشل الابن في تذليل المشكلات التي تظهر في مكان العمل ولو كانت تافهة ويعجز عن اتخاذ إجراء مناسب لتصحيح الأوضاع، الأمر الذي يفضي إلى مزيد من المعضلات الأكثر تعقيدا مع مرور الوقت.

لكن مثل هذه المشكلات لا وجود لها في البيئات التي تسود فيها مبادئ القرآن وذلك لأن القرآن يأمر المؤمنين بإسناد الأمور إلى أهلها الذين تتوفر فيهم المهارات والمعرفة التي تقتضيها هذه المهام: "إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا " (النساء:58)

إن الشخص الذي يؤمن بالله ويهتدي بمبادئ الدين وقاف عند حدود الله. ولهذا فالمجتمع الذي يتكون من أشخاص مؤمنين هو في الحقيقة يشتمل على: "وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُون وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُون" (المعارج:32-33)حيث يؤدي كل فرد فيه مسئولياته بأحسن وجه.

أخلاق الإسلام تعصم البشرية من الغدر والخيانة

يوجه الدين الإنسان إلى مفاهيم الوفاء والالتزام. ومن الخطأ الظن بأن هذه المفاهيم تبقى في المجتمعات التي لا تهتدي بقيم القرآن، وذلك لأن الفرد في المجتمعات المؤمنة يظل وفياً للآخرين في كل الأحوال حلوها ومرها لا لشيء سوى الفوز برضا الله، أما الذي لا يرجو لله وقارا ولا يظن أنه سيعاقب على ما يرتكب من شرور فإن مصلحته هي التي تحركه ثم لا يلبث أن يغدو إنسانا مفرط الأنانية.

والمجتمعات الكافرة تموج بالأمثلة التي تثبت هذه الحقيقة. فالناس هناك يتنكرون لمن زل عن مكانة كان يتسنمها أو عن منصب كان يشغله، ويزهدون في الشخصيات الهامة التي لم تعد تثير اهتمام الناس، وينفضون من حول الغني إذا افتقر. كما يشعر من يصاب بمرض عضال بمرارة هجر الخلان ورغبتهم عنه. وهكذا يمكنك الاطلاع على نماذج من الخيانة في صفحات الصحف كل يوم. ففي مجال الأعمال والشركات يبغي الخلطاء على بعضهم على بعضهم الآخر ويتخادعون. ففي مثل هذه العلاقات التي تفوح منها رائحة المصلحة يشاهد المرء كل أشكال السلوك غير الأخلاقي وذلك لما للمال من تأثير كبير على مجريات الحياة اليومية.

أما الصداقة فهي ظاهرة اجتماعية أخرى تتبدى فيها ملامح الخيانة والغدر. إذ لا يتورع الناس عن هجر أعز أصدقائهم إذا أحسوا أنهم يجنون منفعة أكبر من صداقة أخرى. فقد غُبن كثير من الناس من قبل أصدقائهم لأسباب مماثلة. وينسحب هذا الحكم على الزواج. إذ يترك الزوج زوجه أو يخونها لأتفه الأسباب. فهم يظلون على هذا الضلال لأن فعالهم المنكرة ستظل، حسب منطقهم المعوج، طي الكتمان طالما لم يطلع عليها أحد. لهذا فإنهم لا ينتهون عن غيهم. وباختصار هناك عنصر غدر وخيانة في معظم العلاقات في المجتمعات الكافرة مما يجعل تعامل الناس فيما بينهم مشوبا بالتردد والريبة.

ولا يقتصر انحراف منطق المجتمعات الكافرة على هذه النماذج وحدها. فكم من مشاهير بسبب المال أو الجمال يعشقهم ملايين المعجبين يفقدون هذا الحب وهذا الاهتمام ويقضون بقية أيامهم في عزلة كاملة وفاقة وعوز، يرقبون الموت بعد أن تتقدم بهم السن ويذهب عنهم ما كانوا يتمتعون به من سحر وجاذبية. فقد فقدوا فجأة المعجبين والأصدقاء وأضواء كاميرات الصحافة.

أن الاعتقاد السائد بين اللادينين هوعلى أن الإنسان بهيئته الحالية قد تطور من مخلوقات شبيهة بالقرد عن طريق عمليةمصادفات. وهذا هو السر في أن الإنسان يقم تقيمه على أساس مظهره ووضعه الماليوبهما يتميز المرء في مجتمعه. ومتى ما تلاشت هذه القيم المادية تلاشت مكانة المرء في أعين الآخرين. ولا جرم أن هذه الفلسفة لا تجعل أي قيمة لكائن أصله قرد، إذ ينصرف كل الاهتمام إلى المال والشهرة التي يحوزها المرء. وعليه يحل الأشخاص الأصغر سنا والأكثر جمالا محل المسنين ويزيح المجتمع كبار السن جانبا لأنه لم يعد بحاجة إليهم. كما يفترض بقية أفراد هذا المجتمع أنهم قد انحدروا من قرود وسيطويهم الفناء في نهاية الأمر. ولأن فلسفتهم لا تعرف قيمة الوفاء، فهم لا يتورعون عن التخلي عن آبائهم المسنين وتركهم يقضون بقية أيامهم في دور الرعاية متناسين أن هؤلاء الأباء المسنين هم الذين تطوعوا بتربيتهم ورعايتهم حتى بلغوا مبلغ الرشد. وأسوأ من ذلك أن هؤلاء الآباء والأمهات المسنين يلقون معاملة سيئة في كثير من دور الرعاية.

لا ريب أن أي قلب يخلو من قيم الدين يمكن أن يدفع صاحبه إلى أن يتصرف بعنف أو بعدم اهتمام حتى تجاه والديه. وفي ظل هذا الجدب الروحي تتسرب قيم التنكر والخيانة والغدر إلى كافة أشكال العلاقات الإنسانية. وليس من حل لهذه المشكلة الاجتماعية التي تشيع الألم والاضطراب الروحي إلا بمراعاة قيم الدين. فحين يتمسك الناس بمبادئ الإسلامفسينظر بعضهم إلى بعض باحترام وتقدير. فلا يغدو المال ولا جمال الخلقة ولا المكانة الاجتماعية معيارا للتفاضل بينهم، بل تكون قيمة الواحد منهم بقدر ما عنده من خشية الله وبحسب نصيبه من الكمال الأخلاقي. فالجسد ليس سوى نعمة مؤقتة وهبها الله للإنسان. وقد خلق الله الإنسان واستعمره في الأرض ومنحه الحياة اختبارا له. ومقامه في هذه الدنيا قصير إلى أجلمعين ثم ينتقل إلى مقامه الأبدي في الدار الآخرة. وحين يوافي الآخرة فإنه يحاسب على قدر ما تحقق له من سمو خلقي ولهذا كان سمو الأخلاق، لا غيره، هو الأهم. إن الله يأمر عباده بالوفاء لبعضهم البعض وهذا هو مصدر سعادة المؤمنين.

حيثما سادت أخلاق الإسلام فثمة قيم الوفاء والإخلاص المحض. الأطفال يجلون والديهم. والآباء والفنانون والعلماء والأشخاص الذين خدموا أممهم ينالون التقدير اللازم بغض النظر عن تقدم سنهم. والشباب لا يتخلون عن كبار السن من أفراد أسرهم ولا يدعونهم يقاسون مرارة الوحدة في نهاية حياتهم. فهم يزورونهم بانتظام ويجهدون في خدمتهم. ففي مثل هذه المجتمعات تعمّر الصداقات وتتطاول آجالها، لا بل يصبح الناس كأنهم اخوة أو أخوات، لا أصدقاء فحسب. وأكثر من ذلك يرى الناس في مثل هذه المجتمعات في عوادي المرض وغوائل المصائب والصعاب مواسم لنيل رضا الله. والرجل والمرأة المقبلان على الزواج يحافظان على بقاء علاقتهما ويقويانها بالإكثار من ذكر الله. كما يدفعهما إيمانهما بالحياة الآخرة السرمدية إلى الإخلاص التام لبعضهما الآخر. إخلاص لا يغيّره تبدل الظروف، كأن يصاب أحدهما بالمرض أو العجز أو الكبر. فإخلاص الرجل وحبه واحترامه لزوجته مثلا يبقى على مر الأيام، لا ينضب معينه حتى لو فقدت الزوجة جمالها الأول بسبب تقدم السن أو الإصابة بمرض. وليس هذا إلا لأن المؤمنين يعلون من شأن الروح فقط. بل يتحول الصبر الذي يبدونه في أيام البلاء هذه إلى متعة روحية عظيمة. والحديث التالي يوضح ولاء المؤمنين لبعضهم بعضا بشكل جيّد: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في عون أخيه كان الله في عونه ومن فرج عن أخيه كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة. " (البخاري ومسلم).

وينطبق هذا الفهم للإخلاص والوفاء على الشراكات التجارية وغير ذلك من ضروب العلاقات التي تربط بين المؤمنين. فالوفاء بالعهود والعقود من أبرز وأهم سمات المؤمن. إلا أنه من سفه الرأي أن نتوقع من الناس في المجتمعات المحرومة من قيم القرآن أن يراعوا قيم الوفاء والإخلاص.

وهناك مسألة تتعين الإشارة إليها هنا وهي: أنه ربما زعم شخص ما أنه لا يخلف وعوده ولا يغدر رغم أنه لا يدين بدين معين. ونحن نقول إنه من الوارد أن يوجد شخص غير متدين لكنه مستقيم في تعامله، متنزها عن الخيانة والغدر طوال حياته. لكن، وكما سبق أن أشرنا، قد تتبدل الظروف بشكل يجعله يظن أن بإمكانه خدمة مصالحه. وفي هذه الحالة لا يملك إلا أن يستجيب لإغراء الظروف الجديدة. لكن المؤمنين لا يجرؤن على انتهاك حرمات الله مهما دعت الظروف.

الأمن والسلام يسودان حيث يتمسك الناس بمنهج الله

يرشد الله الإنسان إلى حياة يسودها الأمن والسلام. حياة تختفي من على وجهها سورة الغضب وغير ذلك من أنماط السلوك غير الأخلاقية التي حرمها الله: "الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين " (آل عمران: 134)، "وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُون " (الشورى: 37). كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد حث المؤمنين على كبح جماح الغضب وكظم سورة الغيظ في كثير من أقواله: "ليس الشديد بالصرعة لكن الشديد من يملك نفسه عند الغضب" (البخاري).

هكذا وصف الله المؤمنين في القرآن، وهم، أي المؤمنين، حريصون على الالتزام بمقتضى هذا الوصف. وما ذلك إلا لأن رحى حياتهم تدور حول قطب واحد وهو مرضاة الله تبارك وتعالى. فهم في تطلع دائم إلى إرضاء الله في كل كلمة يتفوهون بها وكل موقف يتخذونه وكل خطوة يمشونها. ويأمر الله عباده بالتزام نمط من السلوك الراقي الرفيع. ويصف هذا النمط من السلوك في كثير من آيات الكتاب الكريم بـ "التي هي أحسن". فهو يلفت الأنظار إلى ذلك بقوله: "وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا"(الإسراء: 53)، "ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُون " (المؤمنون: 96)، "وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم" (فصلت: 34).

يدأب كل فرد في الأوساط التي تتمسك بهدي القرآن إلى تنمية أفضل الأخلاق في نفسه. ولهذا تغدو السكينة والوداعة والسلم أسلوب حياة يجئ سجية وتتطوع به النفوس غير مكرهة. فلا تملك آفات الغضب والصراع والشقاق إلا أن تتلاشى. هذا هو دأب المؤمنين وبقائهم على هذه الأخلاق الكريمة. ولا يعثر المرء على أثر لآفات الصراع والنزاع، لا في حياة الأسرة ولا في ميدان التجارة ولا حيث تزدحم حركة المرور. هذه السوءات الخلقية التي يتقبلها أناس آخرون ولا يرون بها بأسا، تسبب الحرج للمؤمنين.

يعم السلم في الأماكن التي يستمسك فيها بأخلاق الإسلام. أما في المجتمعات الكافرة فيعاني الناس من رهق القلق وعنت المشاكل. فليس ثمة آلية واحدة لمنع شخص مجرد من قيم الدين من إتيان صنيع غير مقبول. وأغلب الظن أن مثل هذا الشخص سيعاني من تقلب المزاج وذلك لأنه يتصرف وفق ما تمليه عليه شهواته ونزواته، فهو قد يغضب فجأة، وقد يتصرف تجاه الآخرين بشكل غير لائق، بل قد يلجأ إلى العنف أحيانا. والحق أن الشعور بالغضب يعكس ما يعتمل في دواخل الفرد من قلق. وكما نوهنا من قبل، فهذه حالة يتكرر حدوثها في أوساط المتزوجين والأصدقاء وفي ميادين العمل التجاري وفي العلاقات الأسرية. ويندر أن تجد في مثل هذه المجتمعات أشخاصا لا ينزعجون إذا أحسوا بأن الأمور تجري على غير ما يشتهون، أو إذا تعرضوا للضغط أو شعروا بأن مصالحهم تتعرض للخطر. ففي مجتمع كهذا يعز العيش في سلام وذلك لأن الناس فيه لا يأبهون ولا يكترثون بمشاعر الآخرين.

لا يتصور كثير من الناس أن الشخص الذي يثير غضبهم قد يكون مرهقا أو يعاني من قلة النوم أو مريضا أو يواجه مشكلة ما. فالناس ليسوا ملائكة وقد يقعون باستمرار في الأخطاء. ومن العبث مهارشة الآخرين وسبهم أو حتى الاشتباك معهم لأسباب تافهة وأخطاء صغيرة. لكن في المجتمعات الكافرة قد تثور النزاعات لأتفه الأسباب-- بسبب رداءة طعام أو اتساخ قميص أو تأخر خدمة في أحد المطاعم. كما أن أفراد مثل هذا المجتمع قد لا يأبهون لما يحدث من ظلم طالما لم يتأثروا سلبا بنتائجه.

لقد أودع الكثير من الأشخاص المسنين في مؤسسات الرعاية أو ألقي بهم في قارعة الطريق وهذا أحد إفرازات المجتمعات المحرومة من الإيمان والتي لا قيمة فيها للإنسان

منظومة الأخلاق الإسلامية تحقق التوازن العقلي

يوقن المؤمنون أن كل ما يحدث في هذا الكون يجري بقدر الله وبالتالي يسلمون أمرهم إلى الله تبارك وتعالى. وهو إيمان يحقق لهم توازنا روحيا. فلا تقدر حادثة، حسنة كانت أم سيئة، أن تفقدهم توازنهم. ولا تصدر عنهم ردود أفعال مفاجئة. كما أنهم لا ينساقون وراء عواطفهم ولهذا تكتسب تصرفاتهم طابعا عقلانيا في كافة الأحوال. ولهذا تحلى المؤمنون بدرجة عالية من الثقة. ففي أوقات الشدة والفتن يتخذ المؤمنون احتياطات معقولة ويقللون من مقدار الأضرار المحتملة عليهم وعلى من يحيطون بهم. ولأن المؤمنين قد أشربوا مبادئ القرآن-- الهدى الذي أنزله الله للبشرية--فإن هذه المبادئ تنعكس على كل ما يصدر منهم من مواقف وأفعال. وذلك أن الالتزام الصارم بأوامر الله والخوف منه يقدح وعيهم ويشعل مداركهم. فهم قد وهبوا أدوات بارعة للتفكير وإصدار الأحكام وآلية فذة لاتخاذ قرارات راشدة.

ولا جرم أن امتلاك هذه المواهب يسكب الطمأنينة في نفس المؤمن فلا يستسلم لهواجس الخوف ولا تتملكه مشاعر اليأس ولا يخور. كما لا يطيش صوابه لما يعترض سبيله من حوادث مؤسفة بل يتصرف على الدوام بعقلانية. وهو يناضل الصعاب والمشكلات ولا يستسلم أبدأ. وحتى في أحلك اللحظات فإنه يراعي مشاعر الآخرين ويخاطبهم بأدب ويستعين بالصبر وكل هذه من سجايا النفوس الكبيرة الواثقة. ولأن المؤمن يؤمن إيمانا قاطعا أن كل حدث في الوجود لا يخرج عن قدر الله، فهو يستحضر دائما قول المولى عز وجل: "مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور " (الحديد: 22).

إن ذهول المتنكرين لقيم الدين عن هذه الحقائق يجعلهم على الدوام نهبا للقلق والخوف والإجهاد النفسي. والإجهاد النفسي هو الذي ينزع عنهم لباس الاستقرار النفسي والعاطفي. إن من يراقب أمزجة هؤلاء الناس سيجد عجبا. إذ تنتابهم تقلبات مرهقة في المزاج. وإذ بدوا مسرورين فسرعان ما تنتابهم نوبات من البكاء المرٌ. ففي أغلب الأحوال يصعب التكهن بالأشياء التي تفرحهم وتلك التي تسوؤهم. فأحيانا يتذكرون حدثا غير سعيد فيلفهم الغم، وتدهمهم حالات الاكتئاب بسهولة ولا يتردد الواحد منهم في الإعلان عن أنه في حالة اكتئاب كاملة. وتراودهم فكرة الانتحار من حين لآخر، بل يحاولون الانتحار أحيانا. إن سلوك مثل هؤلاء الناس لا يعرف الحدود. وليس لهم فهم لمسائل الخطأ والصواب ولا يميزون بين أنماط السلوك اللائقة وغير اللائقة، وبين المعقول واللامعقول وذلك لأنهم غافلون تماما عن المعيار الذي وضعه الدين.

إن هؤلاء الناس لا يتوكلون على الله بسبب جهلهم بالدين. فهم ببساطة غافلون عن حقيقة أن كل الحوادث في هذه الحياة تجري على قدر إلهي مرسوم، وأن جميع الحوادث، حسنها وسيئها، وضعت لابتلاء الإنسان واختباره. إن افتقارهم لمبادئ الدين الحق يحول بينهم وبين إدراك المغزى الحقيقي لما يقع لهم من حوادث. وهذا هو سبب عجزهم عن تقييم هذه الحوادث كما ينبغي. ولأنهم يعزون كل الحوادث للمصادفة المحضة فهم يشعرون على الدوام بالقلق والإجهاد والخوف. كما أن هذا هو السبب الذي يدفعهم إلى اتخاذ قرارات خاطئة وإبداء ردود أفعال غير مناسبة. إنهم يعضون أصابعهم ندما على كل تصرف يبدر منهم.

ليس بمقدور هؤلاء الناس أن يضعوا معيارا سليما لأي شيء، فهم يفرحون وينتشون إذا جرت الرياح بما يشتهون، ثم ما يلبثوا أن تظهر عليهم سيماء الغطرسة والوقاحة. إن ابتهجوا فقدوا السيطرة على أنفسهم وسلكوا سلوكا مشينا. ويمكن أن تصدر عنهم أشياء غير متوقعة، فقد يشرعون فجأة في الزعيق أو البكاء أو الابتهاج. وإن غضبوا أكثروا من الكلام أو ربما غدا سلوكهم عدوانيا.

ولا ينحصر هذا الضرب من السلوك على شريحة اجتماعية معينة من شعب معين، ففي المجتمعات الغافلة عن أخلاق الدين يمكن للأشخاص الأكثر نضجا والأكمل عقولا والأرفع تعليما أن يفقدوا السيطرة على أعصابهم ويسيئوا استخدام مواهبهم بتتبع أغراض شريرة. ومن الأمور المشاهدة بشكل واسع أن هؤلاء الناس يمكن أن ينحطوا إلى الدرك الأسفل من اللؤم والخبث أو أن يصبحوا عدوانيين حين تتعرض مصالحهم للخطر أو حين تجري الأمور على غير ما يريدون.

التمسك بالدين يثمر شخصية قوية وحازمة

إن الناس في المجتمعات الجاهلة محدودو القدرات ولو بدا أنهم يتمتعون بقوة الشخصية، إذ لا يلبث ضعفهم أن يتكشف في ظل ظروف معينة. وحتى أصحاب المبادئ منهم قد يتناسون مبادئهم هذه إذا تعرضت مصالحهم لتهديد. فهم نادرا ما يرقبون حرمة قانون إذا تعرضوا لضغط أو حلت بهم نكبة أو أصابتهم مصيبة المرض وظنوا أنهم بمفازة من أعين الرقباء. إنهم عرضة لأن يتهافتوا على ما يقدم لهم من عروض جذابة طالما لم يكن ثمة سبب وجيه يردعهم عن التنكر لمبادئهم والانقياد لشهواتهم.

لكن، وكما أسلفنا القول، ليس المهم إن كان المرء من هؤلاء قد ارتكب مثل هذا الجرم أم لا، بل الأمر الأهم هو أنه ليس هناك ما يحجز شخصا لا يبالي بقيم الدين من الانقياد لرغباته الأنانية. إن عدم خوف هذا الشخص من الله يسلبه قوة الإرادة. لكن الأمر مختلف جدا بالنسبة لشخص ملتزم بأخلاق الإسلام. إذ لا شيء يحول بينه وبين فعل ما يؤمن بأنه حق. والسبب الأول لهذا الإصرار هو خوفه العميق من الله. فهو يعلم أن الله يرى ويسمع ويعلم بكل ما أخفى فؤاده ويستشعر معية الله. فالشخص الذي يؤمن بالله حقا هو شخص قوي الشخصية وقاف عند حدود الله لا يتعداها. وهو يرهب أن يأتي عملا يسخط الله، ولا يني يسعى لنيل القربى من خالقه بالغا ما بلغت العوائق التي تعترض سبيل حياته. هذه الحقيقة تتجلى في قوله تعالى: "فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَار لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْر حساب " (النور: 36-38)

أخلاق الإسلام تذهب الأنانية

ليس غريبا أن ينحصر تفكير المستهترين بقيم الدين في أنفسهم. فهذا في الحقيقة متطلب فلسفي أساس للنظام الذي يحيون وفقه. إن الاستعداد للتضحية وإظهار الرحمة والتخلق بكريم الأخلاق هي قيم يأتي بها الدين وليس ثمة ضامن لمراعاة المرء لها سوى الدين نفسه. إن المؤمنين بالله واليوم الآخر والمدركين لحقيقة أن ثمة حسابا ينتظرهم بعد الموت هم وحدهم المؤهلون لبلوغ مرتبة الكمال الخلقي التي وصفها القرآن. وهذا هو السبب الذي يجعل الكافر غير قادر على تسنم هذه الذروة الأخلاقية. ولا يحق للكافر أن يقول: "صحيح أن في المجتمع أشخاصا أنانيين لكنني قطعا لست واحدا منهم" وذلك لأن المرء إذا لم يراع قيم الدين فلا مناص من أن يصبح أنانيا.

وهذا هو سبب انكفاء الذاهلين عن قيم الدين على مصالحهم الضيقة وعدم اكتراثهم لمصالح غيرهم. فهدفهم الأول في الحياة هو أن يزدادوا غنى وأن يترقوا مهنيا وأن يتوسعوا في الرزق، ولهذا يغيب عن تفكيرهم سد حاجات غيرهم من فقراء ومحتاجين ومسنين أو احتياجات مجتمعهم. والسبب في ذلك هو أن نظرة الكافر للحياة ينقصها الدافع والحافز إلى التضحية أو الالتزام بالخلق الكريم. وشبيه بذلك موقفهم العام ممن حولهم من الناس، بل إن مجموع أفراد المجتمع يتصرفون بذات الطريقة. وهذا الميل العام لدى أفراد المجتمع يمنح شيئا من راحة الضمير. صفوة القول، إن الأنانية ضربة لازب في المجتمعات التي لا تراعي قيم الدين، فهي تنتظم أفراد هذه المجتمعات قاطبة.

إن الإنسان مبتلى بشعور الأنانية الذي أودعه الله في النفوس العنيدة. يشير الله إلى هذا الاتجاه (الأنانية) في الآية التالية: "وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا" (النساء: 128).

وعلى العموم، فإن الأشخاص الأنانيين يقطعون بصواب وسلامة قناعاتهم الشخصية حتى في المسائل التافهة، فلا تكاد احتياجات الآخرين أو رغباتهم تعني عندهم شيئا. فلو أحس الشخص الأناني بالإجهاد فإن كل ما يفكر فيه هو أن يجلس بأسرع وقت ممكن ولا يفكر بالمريض أو بالشخص المسن الذي يجلس إلى جواره ويحتاج إلى الراحة. إن حرصه على الحصول على أفضل وضع أو أفضل شيء يعميه عن رؤية الناس من حوله. فهو لا يرى بأسا بإقلاق الآخرين في سبيل تحصيل راحته. وهو يطالب الآخرين بالهدوء أثناء عمله لكنه يستنكف أن يحترم الآخرين أثناء عملهم. إن أنانيته هذه تتبدى بصور شتى سواء في بيته أو في مكان عمله.

وقد تجد في المجتمعات الكافرة أناسا كريمي الأخلاق ويتعاملون بنبل مع الناس من حولهم. لكن دافعهم الأول إلى هذا السلوك الحسن هو الرغبة في تحصيل الثناء وحسن الأحدوثة لا الطمع فيما عند الله من مثوبة. بالإضافة إلى حقيقة أن العون الذي يقدمونه للفقراء يكون في أغلب الأحوال لا يساوي شيئا مقارنة بحجم ثرواتهم.

وقد توجد في المثاليين منهم رغبة في تحمل المسئولية وتولي القيادة، وليس ذلك بالطبع عن رغبة في إرضاء الله أو خدمة الناس، بل يريدون بذلك خدمة مصالحهم وقضاء أوطارهم وتعزيز وضعهم الاجتماعي والاشتهار بين الناس. إذ لا تلبث طباعهم الحقيقية أن تتكشف إذا تعرضت مصالحهم للتهديد.

إن من يوصفون بالكرم في المجتمعات البعيدة عن هدي الإسلام قد يعتبرون أنانيين إذا قورن كرمهم بأريحية وتضحيات المؤمنين. وإن تصور المؤمنين لمفهوم التضحية بالنفس يختلف جدا عن تصور الكافرين له. فالمؤمنون يؤثرون قضاء حاجات غيرهم على قضاء حوائجهم. وقلوبهم عامرة بحب الخير لأخواتهم وإخوانهم. وهذا تطبيق عملي للوصف القرآني القائل: "وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا"(الإنسان: 8)،وهذا الحس الأخلاقي هو الذي يدفع المؤمنين إلى خوض أهوال الحرب وتعريض أنفسهم لغوائل الردى استجابة لأمر الله: "وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا" (النساء: 75) .فبدلا من الانكفاء على احتياجاتهم هم يشعر المؤمنون بالمسئولية تجاه الكافة ويسعون لتحقيق الخير للجميع. وهذه الروح الإيمانية يعبر عنها بجلاء الحديث النبوي القائل: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" (البخاري). وهكذا تنهض العلائق الاجتماعية على معاني التضحية في المجتمعات التي تسود فيها قيم الدين فيتمخض ذلك عن بيئة اجتماعية بريئة من المشكلات.

أخلاق الإسلام تحد من المغالاة في الطموح الدنيوي

إن الدين هو وحده الذي يعلم معاني الحب والأخوة والمشاركة في صورتها الحقيقية. وليس سوى الدين ما يعمق هذه المفاهيم ويصون وجودها. ومرد ذلك إلى حقيقة أن النفس البشرية مجبولة على حب الدنيا والطمع والولع بتحصيل حظوظها. ولأن الدار الآخرة غائبة عن قائمة اهتماماتهم، يجهد المحرومون من هدي الدين، وعلى امتداد حياتهم، في إرضاء طموحاتهم التي لا تعرف الحدود. يصور الله رواد هذا الطريق على النحو التالي: " وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا وَبَنِينَ شُهُودًا وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ " ( المدثِّر: 12-15). تنحصر طموحات الناس في البيئات البعيدة عن هدى الدين في تحصيل المزيد من الثروة، ولهذا يفشو فيهم التنافس المحموم بسب تكالبهم أيهم يغدو الأكثر مالا والأكثر نجاحا والأكثر شهرة. إنهم ببساطة يسوءهم أن يروا غيرهم في نعمة وخير. ويحسدون الآخرين ويسعون لامتلاك ما يملكون، بل يسرهم أن تذهب النعمة عن الآخرين.

وتنبت من هذا الشره فلسفة جوهرية للحياة وهي أن هؤلاء الناس لا يعتبرون الآخرين مخلوقات برأها الله ونفخ فيها من روحه، بل الناس في نظرهم مخلوقات عادية تطورت من مخلوقات بدائية شبيه بالقرود وستتحول في نهاية الأمر إلى هباء لا قيمة له. وقد قاد هذا المنطق إلى الاعتقاد بضرورة أن يحقق الإنسان أقصى وأفضل غاية من حياته طالما أن فرصته في الحياة واحدة لا تتكرر. وهذه النظرة المنحرفة توحي لصاحبها أن من العبث تقديم العون للآخرين أو السعي لتحقيق رغباتهم أو سد احتياجاتهم. وهي نظرة معيبة تدفع الإنسان نحو مهاوي الاكتئاب.

إن هذا الاكتئاب مصير محتوم ينتظر كل جاهل بأخلاق الدين، وهو يسلك الإنسان في سقر المشكلات ويملأ حياته بالقلق والضغط النفسي وغير ذلك من آفات ترهق روحه وتؤذيها، وهذا هو سبب حرمان الكافرين من السلام والسعادة الحقيقية. إن شهوات ورغبات الإنسان، رغم مشروعيتها، لا حدود لها وذلك لأن الإنسان خلق ليكون جزءا من الحياة الأبدية في الدار الآخرة. وهذه الحياة الدنيا إنما هي دار ابتلاء ومقدر لها النقص والشح بحيث لا تفي بمراد الإنسان. ولهذا يسعى الذين تغيب عنهم حقيقة الابتلاء هذه ويغفلون عن قيم الدين إلى قضاء أوطارهم وتحقيق شهواتهم في الحياة مما يوقعهم في حالة مستمرة من عدم الرضا والقناعة. وهذا العجز عن تحقيق تطلعاتهم في الحياة يحيل حياتهم إلى كابوس مقيم. فهم مفتقرون رغم ما يلوح عليهم من مخائل الثراء. إن استسلامهم لمشاعر الأسى على ما فاتهم من غنى يسلبهم نعمة الاستمتاع بما في أيديهم من ثروات. وليس هذا العنت الروحي سوى الخطوة الأولى من مشوار العذاب السرمدي الذي سينتهون إليه.

يحث الإسلام المؤمنين على البذل والعطاء ومواساة الآخرين. والمؤمنين والمؤمناتيوالي بعضهم بعضا: " وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيم " (التوبة :71) وهم يفرحون لأي خير يناله أحد منهم. إن تسخير كل واحد من هؤلاء المؤمنين لمهاراته وخبراته في سبيل الله يشيع في المجتمع روح التعاون والتآسي. إن أفراد مثل هذا المجتمع يؤمنون أن الله هو الذي برأ الإنسان فتطبع هذه القناعة طريقة تعاملهم فيما بينهم بطابع الرحمة والتقدير. إن مجتمعا كهذا تختفي منه مظاهر الظلم الاجتماعي والتدافع واختلال النظام. إن مصدر السلام والأمن في قلوب المؤمنين يوضحه حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: "ليس الغنى من كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس" (البخاري ومسلم)

التمسك بقيم الدين يقضي على آفة الحسد

لقد سبق أن قلنا أن القرآن عرف الحسد بأنه حالة عقلية غير أخلاقية، وهذا هو سبب اجتناب المؤمنين للحسد ذلك الخلق الذي يتعارض مع إرادة الله. أما الكفار فلا يحول بينهم وبين الحسد حائل وذلك لأنه قد تقرر في منطقهم أن لا وجود لأي دافع للامتناع عن الحسد. إن التنافس يولد في النفوس مشاعر الغيرة والأنانية والانفعال. فالبنت الشابة تحسد بنتا شابة أخرى لأنها أكثر منها جمالا وأفضل هنداما. وتساور الشاب مشاعر الحسد تجاه شاب آخر لأنه أكثر شهرة منه. والحسد مشاهد في كل المستويات الاجتماعية، وهو يكون عادة فيما يملكه الآخرون. فالانتقال للعيش في حي راق وقضاء عطلة الصيف في مصطاف مشهور واقتناء سيارة جديدة والسفر خارج البلاد كل هذه أوضاع تجر حسد الحاسدين. إن الطموح يغلب على البعض بحيث يعجزهم حتى عن التعبير عن سعادتهم بما يحرزه الآخرون من نجاح أو كسب. والعنت الذي يسببه التنافس للروح الإنسانية مشاهد بوضوح ولا سيما في مجال التجارة والمال. وتكاد الرغبة في تحقيق تقدم مرموق في مجال المال والأعمال والحسد الذي ينشأ بسبب ذلك أن تكون أنماطا سلوكية معتادة في الحياة اليومية.

لكن القرآن يرسم للمؤمنين سبيل حياة مبرأة من الرغبات الأنانية، ولهذا فإنهم يفرحون بما يصيب إخوانهم من نعمة أو خير: " وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيم " (الحشر: 9-10)

ويوصي الرسول، نزولا عند أمر الله، يوصي المؤمنين باجتناب الحسد: "إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب" (أبو داوود)

أخلاق الإسلام تشيع الحب والاحترام بين الناس

إن الحب ومكارم الأخلاق هما عماد الدين الحق. ويرغب الله الإنسان في القرآن في معاني الحب والتضحية. والله رحيم بعباده، ويبين الله رحمته لعباده في قوله تعالى: "وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ" (البروج: 14). ويأمر الله عباده بأن يتواصوا بالمحبة والمرحمة. ولهذا يتراحم المؤمنون ويتحابون تدفعهم إلى ذلك رغبة في إرضاء الله، إلى جانب إيمانهم بقيمة الإنسان الذي خلقه الله ونفخ فيه من روحه وهداه إلى سبل الإيمان.

إن يقين المؤمنين بحقيقة أن العالم دار ابتلاء تدفعهم إلى الإحسان في تعاملهم مع الآخرين وذلك لعلمهم أنهم سيجازون بالحسنى حين يردون إلى خالقهم. إذ تدفعهم مخافة الله التي تنطوي عليها ضمائرهم إلى توخي الإحسان إلى الآخرين في كل ما يأتون. إنهم يستشفون جمال الله في كل ما تقع عليه أعينهم من مخلوقاته فتمتلئ نفوسهم بحبه. كما أن إيمانهم بالحياة التي تنتظرهم في دار المعاد يقوي مشاعر الحب والاحترام هذه ويعمقها.

وهكذا فإن دفء الحياة وهنائها لا يناله إلا المستمسكون بقيم الدين. فحياة الأسرة تغدو أكثر سعادة وذلك بما يكتنفها من مشاعر الاحترام العميق من قبل الأبناء تجاه والديهم وتجاه من يبلغ الكبر عندهم. إن القرآن يأمر بهذا النوع من السلوك: "وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا" ( الإسراء: 23) كما يلفت الرسول صلى الله عليه وسلم الأنظار صوب هذا المعنى وذلك بقوله: "ليس منا من لا يرحم صغيرنا ولا يوقر كبيرنا" (الترمذي) وفي آية أخرى يرشد الله المؤمنين بقوله: "وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا " (النساء: 36)

فإن سادت أخلاق الدين في مكان ما تنافس أهله في التحلي بكريم السلوك والآداب. والحق أنه ليس سوى الدين ما يبعث مثل هذه النزعة الأخلاقية في النفوس: "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون" (إبراهيم: 24-25)فالصداقة والحب والتراحم معان لا يلتزم بها إلا الذين يأتمرون بأمر الله، وهذا هو الحب الخالص الذي لا يحث عليه سوى التطلع إلى نيل رضا الله: "وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" (التوبة: 71)

إن رابطة الصداقة التي تصورها الآية أعلاه تفضي إلى تضامن لا انفصام له في المجتمع بوجه عام، تضامن يحس به جميع أفراد هذا المجتمع. أما المجتمعات التي لا تؤمن بقيم الدين فإنها تفتقر إلى الشعور بالمحبة الصادقة وذلك لأنها لا تحب وتحترم غير الجمال والمال والمكانة الاجتماعية.

إن صداقة الشخص الذي يؤسس صداقاته على ثروة أو جمال أو غير ذلك حري بأن تظل صداقته دائرة على محور هذه القيم. كما تظهر الآثار السلبية لهذه العقلية بعمق في العلاقات الزوجية. ففي المجتمعات الكافرة تنكح المرأة لمالها أو لجمالها أو لحسبها. وفي أغلب الأحوال يتبخر حب الرجل لامرأته في هذه المجتمعات إذا بهت جمالها أو أصابها المرض، وفوق ذلك فإن الذي يجهل الآخرة ولا يؤمن بها ليس عنده استعداد لأن يبدد حياته القصيرة في رعاية وتمريض امرأة طريحة الفراش. وهناك أمثلة كثيرة أخرى على أثر الكفر على العلاقات الاجتماعية في مثل هذه المجتمعات.

إن الاحترام لا يقل أهمية عن الحب. فهو تعبير عن مدى الأهمية التي يوليها المرء لشخص ما. لكن في المجتمعات التي لا تأبه لقيم الدين تكون حظوظ الناس من الاحترام بحسب ما عندهم من سلطة أو مال أو جاه، فإن غابت هذه الأسباب لم يكن ثمة ما يحث الأشخاص على احترام بعضهم الآخر

No comments:

Post a Comment