Sunday 9 May 2010

الأوقاف الإسلامية القديمة ودورها فـي النهضة التعليمية والثقافية

الأوقاف الإسلامية القديمة ودورها فـي النهضة التعليمية والثقافية

صورة للمدرسة النورية التي بناها نور الدين محمود زنكي رحمه الله


مداخلة أولية :-

في هذه المقالة المتواضعة نحاول الحديث عن بعض الأوقاف الإسلامية القديمة في كل من : بلاد الشام ومصر والعراق كنماذج للأوقاف الإسلامية ، ودورها في النهضة التعليمية والثقافية ، وذلك على أيام الدولة العباسية (المأمون ) ، والدولة السلجوقية (نظام الملك) , والدولة النورية (نور الدين محمود) , والدولة الفاطمية (الحاكم بأمر الله) , والدولة الأيوبية (صلاح الدين الأيوبي) ، وقد كان تحديد البحث بهذه الفترات ، لأن الحديث عن الأوقاف الإسلامية ودورها الثقافي والتعليمي بوجه عام ، يتطلب منا الحديث عن الأوقاف الإسلامية قديماً وحديثاً ، وكذلك الحديث عنها في بلاد إسلامية مثل:بلاد السند،ودول المغرب العربي ، وفي بلاد أخرى سكن فيها الإسلام مدة من الزمن مثل الهند وبلاد الأندلس , وبعض الدول الغربية التي توجد فيها أوقاف إسلامية ، وهذا يتطلب دراسة موسعة لا يستطيع مقالنا المتواضع أن يفي بها ، فلعلنا نوفق في الكتابة عن الفترات والبلاد التي حددناها .

بيت الحكمة والأوقاف :

قبلإنشاءبيت الحكمة ( أول مؤسسة ثقافيةتعليميةعند المسلمين ) والذي أعلن فاعلياته الثقافية المأمون العباسي ( 218 هـ ) بعد أن أسسه والده الخليفة / هارون الرشيد ، كان الراغبون في العلم يسعون إلى منازل وبيوت الشيوخ والعلماء للسماع منهم ، أضف إلى ذلك المسجد الذي كان دائماً مكاناً للعبادة والعلم .

ولهذا السبب لم تكن هناك نفقات معينة تبذل في سبيلنشر العلوم والمعارف ، فلما ظهرت الحاجة إلى تأسيس مكان يخصص لرعاية العلم ونشر الثقافة ، ظهرت في الوقت نفسه فكرة أن يوقف (الوقف) على هذه المؤسسة الثقافية التعليمية , وقف يُنتج إيراداً يكفي للإنفاق على شئونه اوشئون القائمين بالعمل فيها . [أحمد شلبي ، التربية والتعليم في الفكر الإسلامي ، ص 373 ، بتصرف] .

إذن كان المأمون العباسي الذي يعد بحق رائداً لنشر الثقافات والمعارف في العصر العباسيهوأول من أبرز هذه الفكرة للوجود ، فإنه لم يشأ أن يكون نشاط بيت الحكمة متوقفاً على سخاء الخلفاء والأمراء ، بل أراد أن يجعل نشاطه قوياًمتجدداًمتصلاً سواء أكان الخليفة كريماً أم شحيحاً .

ومن هنا هيأ للعلماء رزقاً سخياً يتقاضونهمن وقف ثابت يفيض ريعه عليالتكاليف المطلوبة لهذه المؤسسة الثقافية التعليمة .[سيد أمير علي ، مختصر التاريخ الإسلامي ، ص 274 ].

وانتشرت فكرة المأمون هذه بين من خلفه من الخلفاء والقادة والزعماء فأصبح من ضروريات إنشاء معهد ثقافي أو مدرسة أن يعين لها وقف ثابت ، تتلقى منه ما يفي بنفقاتها ، وما يمدها بما تحتاج من مصروفات .

ثم تطور هذا الاتجاه الإيجابي ، فظهرت الأوقاف أيضاً على الذين يشغلون أنفسهم بخدمة العلم و التعليم والثقافة في المساجد ، بل إن بعض الأركان أو الأعمدة بالمساجد كان يوقف عليها أوقاف سخية يصرف ريعها إلى من يجلس بها للتدريس والتعليم .

وسوف نحاول في سطورنا القادمة أن نقدم عرضاً سريعاً لنماذج من الأوقاف الإسلامية القديمة في كل من بلاد الشام ، ومصر ، والعراق ، محاولين إظهار دورها في خدمة العلم والثقافة , محددين كلامنا بأيام الدولة العباسية ، وأيام الدولة السلجوقية ، وأيام الدولة الفاطمية ، وأيام الدولة الأيوبية ، كما ذكرنا في مقدمة المقال .

المدارس النظامية :

يقول ابن خلكان في كتابه (الوفيات ، 1 / 202 ) : إن نظام الملك (485 هـ) ، هو أول من أنشأ المدارس فاقتدى به الناس .

ولكن السبكي في (طبقات الشافعية ، 3 / 137) ، والمقريزي في (الخطط ، 2 / 363) ، يذكران لنا أن نظام الملك ليس هو أول من أنشأ المدارس في الإسلام ، فقد وجدت المدرسة البيهقية في نيسابور قبل أن يولد نظام الملك ، والمدرسة السعيدية بنيسابور أيضاً ، بناها أبو سعيد إسماعيل بن علي ، ومدرسة أخرى بنيت للأستاذ / أبي إسحاق الإسفرائيني في نيسابور كذلك .

ويحاول السبكي في طبقاته وفي نفس الموضع السابق أن يوفق بين الرأيين فينسب إلى نظام الملك ، أنه كان أول من قدر المعاليم للطلبة ، فكأن المقصود بإنشاء المدارس هو تقدير هذه المعاليم ، وصرفها للطلبة !! [أحمد شلبي ، التربية والتعليم في الفكر الإسلامي ، ص 366 ، بتصرف] .

وفي رأينا المتواضع : أننا لا نوافق على ما اقترحه السبكي من أن المراد هو أن نظام الملك الوزير السلجوقي يعد أول من قدر المعاليم لطلاب العلم ، وقول ابن خلكان السابق صريح في أن نظام الملك هو أول من أنشأ المدارس ، وليس أول من قدر المعاليم ، ثم أن العزيز بالله الفاطمي سبق نظام الملك بقرن تقريباً في تقدير هذه المعاليم للطلاب . [المقريزي ، الخطط , 2 / 241] .

المشكلة إذن هي : هل كان نظام الملك أول من أنشأ المدارس أم لا ؟ ، الجواب عندي بالإيجاب ، إذا أريد المعني الفني الدقيق لكلمة مدارس ، وأما ما نطلق عليه كلمة مدارس (مجازاً) ، مما ظهر قبل نظام الملك هو جهد متواضع ، لم يعمر طويلاً , ولم يكن قوي الأثر في الحياة الإسلامية ، وهذا الجهد المحدود ظهر قبل مدارس نيسابور بعهد طويل .

فالذي ينسب إلى نظام الملك هو هذه النهضة التعليمية التي لم تتوقف قط ، هو هذا النظام الذي وضع لتعليم المسلمين في جميع البقاع , هو هذه الشبكة من المدارس التي انتشرت في القرى والكفور والمدن ، ولا يستطيع إنسان أن يدعي أنه يجاري نظام الملك في هذا المضمار .[أحمد شلبي ، مرجع سابق ، ص 367 ، بتصرف] .

لقد بنى نظام الملك المدارس والربط والمساجد في أنحاء البلاد , وأمدها بما تحتاج من كتب ، وعين لها المدرسين والخدم ، وفتح أبوابها على مصرعيه لكل من أراد أن يطلب العلوم والمعارف ، كما بذل لها العطايا الكريمة ، وأوقف عليها الأوقاف السخية التي تكفيها على مر الأيام ، فأحيا بذلك معالم الدين الداعي إلى العلم والمعرفة ، ونشط من العلم وأهله ما كان خاملاً في أيام من قبله .

فإنشاء المدارس إذاً إنما هو واحد من أفضال نظام الملك وأياديه ، ومأثرة ترجع له وحده ، ولا ترجع إلى سواه ، ومن هنا تنتسب مثل هذه المؤسسات إلى أعظم شخصية في الدولة ، وعليه فإن تسمية المدارس النظامية مطابقة لهذه القاعدة ، فما كان في الدولة على ذلك العهد من يجاري نظام الملك ، أو يناظره .

وقفية نظامية بغداد:

كان نظام الملك أول من أنشأ المدارسـ كما ذكرنا ـ، وعندما اختلف مع السلطان السلجوقي / ملكشاه ، اغتيل في ظروف غامضة ، وبنهايته الأليمة كانت نهاية أخرى أكثر ألماً تنزل بمدارسه ( المدارس النظامية ) ، حيث توقف العمل بها تماماً ، بل أن بعضها مثل نظامية بغداد اختفت في ظروف غامضة ، واغتُصب مكانها منذ عهد سحيق ، فلم يعد معروفاً حتى وقتنا هذا على وجه الدقة للباحثين والدارسين .

ويبدو ـ للأسف الشديد ـ إن هذه النهاية الأليمة لم تلحق بالبناء فقط ، وإنما بكثير مما كتب عنه أيضاً .

فقد كان مما ضاع على الباحثين هذه الوثيقة المهمة التي كتبت فيها وقفية نظام الملك على مدارسه .

لقد ورد ذكر هذه الوثيقة في عدة مراجع ، ولكن الباحثين قديماً وحديثاً لم يستطيعوا أن يحصلوا عليها أو على نصها .

وعلى كل حال فلدينا من المصادر ما يمدنا في هذا الموضوع بمعلومات ، إن لم تكن كاملة فهي قريبة بعض الشيء من الكمال .

* يقول سبط الجوزي في كتابه (مرآة الزمان، 2 / 121): وفيها ( أي في سنة 462 هـ ) أوقف نظام الملك الأوقاف على النظامية ، وحضر الوزير والقضاة والعدول ببيت النوبة ، وكتبوا الكتب وسجلت ، ومما وقف:سوق المدرسة ، وضياع ، وأماكن ، وشرط نظام الملك الشروط المعروفة .

* ويذكر أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي في كتابه (المنتظم في تاريخ الأمم والملوك ، 8 / 256) ، عن حوادث نفس السنة ( 462 هـ ) : إنه في يوم الأثنين 26 من جمادى الآخرة جمع العميد أبو نصر الوجوه ، فأحضر أبا القاسم ابن الوزير فخر الدولة والنقيبين والأشراف ، وقاضي القضاة والشهود إلى المدرسة النظامية وقرئت كتب وقفيتها ، ووقف الكتب فيها ، فكان من الوقف ضياع وأملاك وسوق أقيمت على بابها .

* وهذا هو الرحالة / ابن جبير يرى و يكتب لنا في رحلته (رحلة ابن حبير ، 239) :أنه رأى ببغداد نحواً من ثلاثين مدرسة ، ويقول : إنه ما فيها مدرسة إلا وهي يقصر القصر البديع عنها ، وأعظمها وأشهرها النظامية التي بناها نظام الملك ، ولهذه المدارس أوقاف عظيمة ، وعقارات واسعة للإنفاق على الفقهاء والمدرسين بها ، وللإجراء على الطلبة .

أما ما خصص من المال لرعاية الشئون الثقافية على العموموكذلك ريع الأوقاف المعينة للمدارس ، فإن المراجع التي بين أيدينا أو المتاحة لنا، أوردت تفصيلات مفيدة ونافعة للباحثين ، نقتبس منها الآتي :ـ

· كان نظام الملك ينفق في السنة الواحدة على التعليم ما يقدر بـ ( 600000 ) دينار.[ناجي معروف ، المدرسة المستنصرية ، ص 8]

· أما الريع الذي كانت تنتجه الأوقاف المخصصة لنظاميةبغداد ، فقد ورد أنه كان 15000 دينار في العام الواحد . [محمد عبده ، الإسلام والنصرانية ، ص 98]

· وقد كان ذلك الريع كافياً لمرتبات الشيوخ ولما يدفع للطلبة ، وكان يشمل مؤونة طعامهم وملابسهم وفرشهم,وغير ذلك من ضرورات معاشهم حتى نبغ فيها جمع من الفقهاء الأفاضل ممن لا يحصون عددا [الألوسي ، تاريخ مساجد بغداد ، ص 102].

· أما أوقاف نظام الملك على نظامية أصفهان فقد بلغت 10000 دينار سنوياً .[سعيد نفيس ، مدرسة نظامية بغداد ، ص 3] .

ويجدر بالذكر هنا أن من أوفى التراجم التي كتبت عن الوزير / نظام الملك تلك التي كتبها العلامة / السبكي في كتابه : ( طبقات الشافعية ، 3 / 135 ـ 145 ) وقد كتبت بإسلوب رائع ، وصورت الرجل على أنه من أعظم المصلحين الاجتماعيين في الإسلام ، وأن شخصيته من أقوى الشخصيات التاريخية ، ونحن نحبذ أن يعتمد أي باحث في الكتابة عن نظام الملك على ما كتبه السبكي ، وكذلك على ما كتبه عماد الدين الأصفهاني ، وابن الأثير ، وابن خلكان ، وابن الجوزي ، لتعم الفائدة بإذن الله .

رجل يرعى العلم والتعليم :

كانت مملكة نور الدين محمود زنكي في سوريا أقوى مملكة قامت على أنقاض السلاجقة ، وقد خلد نور الدين اسمه كبطل من أبطال المسلمين في حروبهم ضد أدعياء حماية الصليب .

واستطاع نور الدين أن يضم إلى سمعته الحربية مكانة كمصلح اجتماعي كبير ، ومن أبرز إصلاحاته في هذا المجال رعايته لشئون العلم والتعليم ، فلقد أعد مملكته لتواصل حركة النشاط الذي بدأه الوزير السلجوقي / نظام الملك ، أو لتتلقى عن العراق وخُراسان ما ضعفتا عن حمله ، وذلك بعد انهيار دولة السلاجقة . [يسري عبد الغني ، يا نور الدين ... ، ص 5 وما بعدها] .

ومن هنا جاءت أهمية الدور الذي قام به نور الدين فهو لم يكن راعياً للعلم فقط ، وإنما كان مشرفاً على نهضته وحامياً لها حتى أسلمها إلى خلفه صلاح الدين ، وفي رأينا أنه لولا نور الدين وجهوده لخيف على هذه النهضة أن تفنى وتتلاشى وتضيع ، ولكن الرجل واصل السير في الطريق الذي بناه سلفه ، فبنى في بلاد الشام ولأول مرة العديد من المدارس التي فتحت أبوابها لطلاب العلم من كافة المستويات والطبقات ، في نفس الوقت الذي فتح فيه قلبه ومعاهده العلمية للمدرسين والعلماء والفقهاء الذين ضاقت بهم أرض العراق وخراسان ، بعد ما حل بها من شقاق واضطراب .

وهكذا كان نور الدين هو حلقة الاتصال بين نظام الملك السلجوقي الذي غرس النهضة التعليمية والعلمية ، وصلاح الدين الأيوبي الذي كتب على يديه لهذه النهضة البركة والنماء .

المدرسة النورية وأوقافها :

أما فيما يتعلق بالأوقاف على المدرسة النورية الكبرى التي بناها نور الدين محمود في دمشق السورية ضمن المدارس الأخرى العديدة التي شيدها , فقد سجلت هذه الأوقاف على الحجر الذي يكون العتبة العليا لباب المدرسة ، والكتابة الموجودة عليها واضحة ويمكن قراءتها حتى يومنا هذا .

* وفي هذه الوثيقة ، وبعد البسملة ، نعرف أن الذي أمر ببناء هذه المدرسة هو الملك العادل الزاهد / نور الدين أبوالقاسم محمود بن زنكي بن آق سنقر (ضاعف الله ثوابه) .

* ونعرف أنه أوقفها على أصحاب الأمام سراج الأمة أبي حنيفة (رضي الله عنه) ، ووقف عليها ، وعلى الفقهاء والمتفقهة بها جميع الحمام المستجد بسوق القمح ، والحمامين المستجدين بالوراقة , والوراقة بعوينة الحمى ، وجنينة الوزير ، والنصف والربع من بستان الجورة بالأرزه ، والأحد عشر حانوتاً خارج باب الجابية ، والساحة الملاصقة من الشرق ، والتسعة حقول بداريا ، على ما نص وشرط في كتب الوقف رغبة في الأجر والثواب ، وتقدمه بين يديه يوم الحساب .

* ويضيف : فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه ، إن الله سميع عليم ، وذلك في مدة أخرها شعبان سنة سبع وستين وخمسمائة .

ومعنى ذلك هو : أن هذه الأوقاف تسلم إلى المدرسة النورية الكبرى بدمشق ، في خلال مدة أخرها شهر شعبان سنة 567 هـ .

إن هذه الوثيقة التي احتفظ لنا التاريخ بها لوثيقة مهمة تبين لنا بوضوح الأوقاف التي عينها نور الدين للمدرسة النورية الكبرى ، وقد ظهر منها أن ريعها الوفير كان يكفي للإنفاق على الطلاب والمدرسين إنفاقاً سخياً متواصلاً.

ويمكن لنا أن نعطي مثالين آخرينلنؤكد هذه الحقيقة :

المثال الأول:

فقد ذكر المؤرخ / أبو شامه ف كتابه (الروضتين، 1 / 16) : أن نور الدين وقف على المدارس الحنفية والشافعية والمالكية والحنبلية ، وعلى أئمتها ومدرسيها وفقهائها أوقافاً كافية .

المثال الثاني :

ويقول الرحالة / ابن جبير (رحلة ابن جبير، ص 285) : إن من مناقب نور الدين محمود أنه عين للمغاربة الذين كانوا يلحقون بزاوية المالكية بالمسجد الجامع أوقافاً كثيرة ، منها : طاحونتان ، وسبعة بساتين ، وأرض بيضاء ، وحمام ، ودكانان بالعطارين ، وجعل أحد هؤلاء المغاربة مشرفاً على هذه الأوقاف .

الأوقاف في مصر وبلاد الشامعلى أيام الفاطميين:

نحب أن ننبه هنا إلى أن أي حديث عن موضوع الأوقاف وأثره على النهوض بالتعليم والثقافة في مصر ، يجب أن يشمل الحديث عن بلاد الشام ( سوريا ، ولبنان ، المملكة الأردنية الهاشمية ، فلسطين العربية ) ، وذلك لأن نفوذ الفاطميين والأيوبيين والمماليك امتد إلى بلاد الشام

العربية الإسلامية في فترات طويلة من حكم هذه الأسر ، وعليه فسنذكرأمثلة من الأوقاف في بلاد الشام خلال كلامنا عن الأوقاف في مصر .

نقول : لقد وجدت الأوقاف على التعليم في مصر قبل عهد الوزير السلجوقي / نظام الملك ، وقبل ونور الدين محمود زنكي ، بوقت طويل .

*ففي سنة 378 هـ ، و في عهد العزيز بالله الخليفة الفاطمي أصبح الأزهر معهداً علمياً أكثر منه مسجداً . [استانلي بول ، القاهرة ، ص ص : 121 ـ 123 ] .

* ولذلك نجد أن الوزير الفاطمي / يعقوب بن كلس يسأل الخليفة العزيز بالله في تحديد أجور لجماعة من الفقهاء ، فأطلق لهم ما يكفي كل واحد منهم من الرزق نقداً ، وأمر لهم بشراء دار وبنائها فبنيت بجانب الجامع الأزهر ، فإذا كان يوم الجمعة حضروا إلى الجامع ، وتحلقوا فيه بعد الصلاة إلى أن تصلى العصر,وكان لهم أيضاً من مال الوزير صلة . [المقريزي ، الخطط ، 2 / 273] .

* فلما جاء الخليفة الفاطمي / الحاكم بأمر الله عمد إلى الأوقاف يعينها للإنفاق من ريعها على المساجد والمؤسسات الثقافية ، فلقد أوقف على الجامع الأزهر ، و الجامع براشدة ، ودار العلم ، أوقافاً عظيمة ذكرها في سجل أشهد عليه قاضي القضاة / مالك بن سعيد الفاروقي .

* ويقول المقريزي في (خططه، 2 / 273 ـ 274): كانت الأوقاف عن جميع الدار المعروفة بدار القرب ، وجميع القيسارية المعروفة بقيسارية الصوف ، وجميع الدار المعروفة بدار الخرق الجديدة ، ويؤكد الحاكم بأمر الله الفاطمي على أن هذه الوقفية دائمة للأبد ، لا يوهنها تقادم السنين .

صلاح الدين والنهوض بالتعليم والوقف عليه :

الحديث عن صلاح الدين الأيوبي ، مؤسس الدولة الأيوبية ، حديث متشعب النواحي ، ومجاله خصب في أي ناحية من نواحيه ، ولكنا نريد في هذه الإلمامة السريعة المقتضبة أن نذكر المعنى الذي سبقت الإشارة إليه ونحن نتكلم عن نور الدين محمود ، فإن صلاح الدين كان أولاً قائداً من قادة نور الدين محمود ، ثم حكم مصر باسمه ، ثم خلفه على عرش مصر , ثم عرش بلاد الشام ، ومن هنا يظهر بوضوح سبب التشابه بين صلاح الدين ونور الدين والذي يحلو للعديد من المؤرخين الحديث عنه . [يسري عبد الغني ، يا نور الدين ... ، ص 14 وما بعدها ] .

لقد تلقى صلاح الدين غرس النهضة من سلفه ، فشيد لأول مرة المدارس في مصر وفي سبيل العلم والفضل كانت تهون عليه نفقات بيوت المال .[ابن جبير ، رحلة ابن جبير ، ص 58 ] .

قال صلاح الدين للخيوشاني المشرف على إحدى مدارسه : " زد احتفالا وتأنقاً ، وعلينا القيام بمئونة ذلك " [ابن جبير ، المرجع السابق ، ص 48] .

أهمية حفظ التراث :

ودخول المدارس إلى مصر ليس أمراً سهلاً لمن يكتب عن التعليم والثقافة ، لأن معناه في التحليل الأخير حفظ ذلك التراث من غوغاء التتار الذين اجتاحوا معظم أنحاء العالم الإسلامي ، وأوقفوا كثيراً من مظاهر الرقي فيه ، وكان كرم صلاح الدين وسخاءه على العلم والتعليم داعياً لجذب العلماء والطلاب لا من العراق فحسب بل من شمالي أفريقيا أيضاً ، حيث كانت مصر في منتصف المسافة ، فرحل لها من هنا وهناك جمهرة كبيرة وجدوا في صلاح الدين ملكاً باراً كريماً وحامياً عظيماً , فجمعهم الإحسان الصلاحي ، على حد قول عبد اللطيف البغدادي في كتابه [الإفادة والاعتبار ، ص 16].

وعندما جاء الأيوبيون إلى مصر نقلوا معهم حماسة الوزيرالسلجوقي / نظام الملك ، وحماسة نور الدين زنكي ، وحمايتهما للعلم ، ثم وجدوا أنفسهم في مصر,أمام تراث الفاطميين العريق ، ومدنيتهم العريضة , التي كان الفن والعلم من أنضر فروعها الوارفة.

لقد حافظ الأيوبيون على هذا التراث المزدوج ، ورعوا العلم ، وما بخلوا يوماً ، وما قتروا ساعة في الإنفاق عليه ، فأنشأوا الكثيراً من المدارس والمعاهد ، وأوقفوا عليها الأوقاف السخية .

وفي نفس الوقت ظهرت موجة من التنافس الشديد في هذا المضمار ، حيث أخذ فيها الأمراء والعلماء بنصيب ملحوظ ، وحظ وافر .

وسوف نحاول في سطورنا القادمة أن نعطي لك أمثلة موجزة لهذه الأوقاف ، ودورها في خدمة العلم والثقافة والمعرفة .

* يقول ابن جبير : إن كل مسجد يستحدث بناءه أو مدرسة أو خانقاه ( الخانقاه أو الخانكاه كلمة فارسية الأصل جمعها في العربية خوانق ، ومعناها : دار موقوفة لسكنى الزهاد والصوفية والعباد ) ، يعين لها السلطان / صلاح الدين أوقافاً تقوم بها وبساكنيها والملتزمين بها . [ابن جبير ، رحلة ابن جبير، ص 275].

* ويضيف المقريزي : أن صلاح الدين عندما بنى المدرسة الناصرية بالقرافة وقف عليها حماماً بجوارها ، وفرناً تجاهها ، وحوانيت بظاهرها ، والجزيرة التي يقال لها جزيرة الفيل ببحر النيل خارج القاهرة .[المقريزي ، الخطط ، 3 /264] .

الناس كملوكهم :

واقتدى بصلاح الدين غيره ممن أنشأوا المدارس ورعوا العلم في العهد الأيوبي ، ومن هؤلاء نذكر : ـ

* تقي الدين عمر بن شاهنشاه الأيوبي الذي اشترى منازل العز التي كانت تشرف على النيل,ومعدة لنزهة الخلفاء الفاطميين , ثم جعلها مدرسة للفقه الشافعي ، ووقف عليها الحمام وما حولها ، وبنى فندقاً بفندق النخلة ووقفه عليها ، ووقف عليها جزيرة الروضة التي كان قد اشتراها من قبل. [المقريزي ، الخطط ، 3/ 364]

* ومن المدارس التي حظيت بوقف سخي المدرسة الدماغية بدمشق السورية ، وكانت داراً لشجاع الدين بن الدماغ ، فلما مات جعلتها السيدة زوجته مدرسة للشافعية والحنفية ، ووقفت عليها ثمانية أسهم من أربعة وعشرين سهماً من المزرعة الدماغية ، والحصة من رجم الحيات ، والحصة من حمام إسرائيل خارج دمشق ، والحصة بدير سلمان من المرج ، ومزرعة شرخوب عند قصر أم حكيم ، ومحاكرات ، وغير ذلك . [النعيمي ، الدارس ، 1 / 236 ـ 237 ].

زوايا جامع عمرو بن العاص :

ويذكر لنا المقريزي ثمانية من زوايا جامع عمرو بن العاص التي كانت تقام بها حلقات تعليمية ، ويشير إلى الأوقاف التي وقفت على كل من هذه الزوايا ، وفيما يلي موجزاًببعضها : ـ

1 ـ زاوية الإمام الشافعي التي درس بها فعرفت به،ووقفت عليها أرض بناحية سندريس، ووقفها السلطان الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين الأيوبي .

2 ـ الزاوية الكمالية بالمقصورة المجاورة لباب الجامع الذي يدخل إليه من سوق الغزل ، ورتبها كمال الدين السمنودي ، وعليها فندق بمصر موقوف عليها .

3 ـ الزاوية التاجية أمام المحراب الخشب ، رتبها تاج الدين السطحي أو المسطحي ،وجعلها دورا بمصر موقوفا عليها .

[المقريزي ، الخطط , 2 / 255 ـ 256] .

** وهكذا كانت الأوقاف في عالمنا الإسلامي في الأعم الأغلب هي المورد الذي ينفق منه على التعليم وعلى المؤسسات الثقافية التي تقدم خدمة مجانية لعامة الناس ، ولكن في بعض الحالات كانت نفقات التعليم والثقافة تدفع بشكل مباشر من الخزانة العامة للدولة ، وقد ذكر المؤرخون أن الوزير الفاطمي / يعقوب بن كلس كان يجري بتوجيهات من الخليفة الفاطمي / العزيز بالله ألف دينار في كل شهر على جماعة من أهل العلم والوراقين والمجلدين . [آدم ميتز ، الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري ، 1 / 294].

ومنالأمثلة التي تدعو للعجب والدهشة ما رواه لنا الرحالة / ابن بطوطة من أن أحمد ملك ( إيذج ) كان يقسم خراج بلاده أثلاثاً ، ويجعل الثلث لنفقة الزوايا والمدارس . [ابن بطوطة ، تحفة النظار ، 2 / 31].

وقفية ست الشام :

وفي ختام هذاالمقالالمتواضع نحب أن نورد وقفية مهمة هي تلك التي وقفتها ست الشام أخت السلطان / صلاح الدين الأيوبي على المدرسة الشامية الجوانية ، وبكل أسف فإن هذه المدرسة قد خربت ، واتخذت داراً ، ولكن بقي منها بابها القديم ، وقد كتب على عتبته العليا نص الوقفية ، وتمتاز هذه الوقفية فوق أن مرجعها هو النص المكتوب على العتبة,وهو مرجع موثوق به تماماً , بأنها وقفية مفصلة دقيقة .

[أحمد شلبي ،التربية والتعليم في في الفكر الإسلامي ، ص 380 , بتصرف ].

ونحب أن نشير هنا إلى أن طريق إنفاق ريع الأوقافالخاصة بست الشام ،ورد مفصلاً فيمرجع مهم وهو كتاب تاريخ مدارس دمشق ، للعلامة / النعيمي . [1 / 202 ـ 203] .

يقول نص وقفية ست الشام : " بسم الله الرحمن الرحيم : هذه مدرسة الخاتون الكبيرة الآجلة عصمة الدين ست الشام أم حسام الدين بنت أيوب بن شادي رحمها الله ، وقفتها على الفقهاء والمتفقهة من أصحاب الإمام / الشافعي ( رضي الله عنه ) ، والموقوف عليها وعليهم وعلى ما يتبع ذلك ، جميع القرية المعروفة ببزينة ، وجميع الحصة وهي أحد عشر سهماً ونصف من أربعة وعشرين سهماً من جميع المزرعة المعروفة بجرمانا ، وجميع الحصة وهي أربعة عشر سهماً من القرية المعروفة بالتينة ، ونصف القرية المعروفة بمجيدل السويدا ، وجميع القرية المعروفة بمجيدل القرية ، وذلك في سنة ثمان وعشرين وستمائة " .

** أما الإنفاق على هذه المدرسة فقد وضع على النحو التالي : ـ

أولاً ـ يبدأ في الإنفاق بعمارة المدرسة ، وثمن زيت ، ومصابيح ، وحصر ، وبسط ، وقناديل ، وشمع ، وما تدعو الحاجة إليه .

ثانياًـ يدفع للمدرس غرارة من الحنطة ، وغرارة من الشعير ، ومائة وثلاثون درهماً فضة ناصرية .

ثالثاًـ عشر الباقي يصرف إلى الناظر عن تعبه وخدمته ومشارفته الأملاك الموقوفة وتردده عليها .

رابعاًـ إخراج ثلثمائة درهم فضة ناصرية في كل سنة ، تصرف في ثمن بطيخ ومشمش وحلوى في ليلة النصف من شعبان على ما يراه الناظر .

خامساًـ الباقي يصرف إلى الفقهاء والمتفقهة,والمؤذن , والقيم المعد لكنس المدرسة ورشها وفرشها وتنظيفها وإيقاد مصابيحها ، ويعطى هؤلاء على قدر استحقاقهم على ما يراه الناظر في أمر هذا الوقف من تسوية وتفضيل وزيادة ونقصان وعطاء وحرمان .

هذا وقد ذكرت الواقفة أن من شرط الفقهاء والمتفقهة والمدرس والمؤذن والقيم أن يكونوا جميعاً من أهل الخير والدين والصلاح والعفاف وحسن الطريقة وسلامة الاعتقاد والسنة والجماعة .

كما شرطت ـ رغبة منها أن يظل الملتحقون بالمدرسة في مستوى مالي لائق , و ألا يزيد عدد الفقهاء والمتفقهة المشتغلين بهذه المدرسة عن عشرين رجلاً ، من جملتهم المعيد بها والإمام ، بخلاف المدرس والمؤذن والقيم إلا أن يوجد في ارتفاع الوقف نماء وزيادة وسعة ، فللناظر أن يقيم بقدر ما زاد ونما.[النعيمي ،الدارس ، نفس الموضع السابق ، بتقديم وتأخير من جانبنا ]


No comments:

Post a Comment